الألباب المغربية – محمد خلاف
يبقى الحنين لأجواء رمضان، أيام الزمن الجميل مسيطراً على ذكريات أجيال، وإن اختلف التوقيت، فظواهر وروحانيات وطقوس رمضان القديمة لها خصوصية، ولبساطة الحياة في ذلك الزمن رونق خاص وجميل….
وهكذا بمجرد الإعلان عن ظهور هلال شهر رمضان، تُشعل بعض مآذن مساجد الفقيه بن صالح مصابيحها، وخاصة صومعة المسجد الأعظم التي كان نورها يشاهده الناس من كل نواحي المدينة..
وتنطلق بعدها أصوات عذبة تناجي الروح والوجدان، وكان الأطفال يسعدون حين سماعهم أصداء نغمات النفار الشهير المسمى السايح قادمة من صوامع المساجد، ومن حواري المدينة….
كانت أجواء رمضان “بلاربعا”، مفعمة بالمشاعر الوجدانية واللحظات الروحانية ،ورغم كثرة الأعباء المنزلية، فقد كانت الأمهات يجتهدن في طبخ الحريرة الطازجة كل يوم،، فلم تكن هناك ظاهرة تخزين الحريرة في الثلاجة لمدة طويلة…
نساء الزمن الجميل، كن يدخلن إلى المطبخ بعد صلاة الظهر بقليل، وجميع العمليات تتم بواسطة طاحونة بلاستيكية لها دواليب حديدية، حيث لم يكن في ذلك الزمن قد ظهر الخلاط الكهربائي الشهير ب”مولينينكس” ،والذي ربما يعتبر أحد عوامل فقدان الحريرة لمذاقها الأصيل….
بعد الانتهاء من إعداد مكونات الحريرة، يتم تركها تنضج على نار جد هادئة ب”الكاميلة”، لم تكن أبدا تطهى في طنجرة الضغط “كوكوت مينوط ” كما سيظهر لا حقا في زمن السرعة.
بعد ذاك تنتقل المرأة لعجن خبز رمضان، ويتم إرساله مباشرة إلى فران الحومة…
وكانت النساء تقومن أيضا بعجن الخبز (المخمار)، و يتم تناوله في وجبة السحور…
في الزمن الجميل، كان الأطفال الصغار والكبار، وجموع المارة يشمون رائحة الحريرة المنبعثة من نوافذ المطابخ بعد صلاة العصر، حيث تزكم أنوفهم رائحة الكرافس الفواحة والسمن البلدي من مسافات بعيدة ، رائحة يمكن شمها على بعد مئات من الأمتار، وهو مؤشر على أن العد التنازلي ليوم الصيام قد بدأ، وموعد دوي مدفع الافطار يقترب… وقبل أذان المغرب بحوالي ساعة كانت تسري حركة غريبة في باب الأحد وزنقة الهرية، وزنقة الجيارة… وكانت ربات البيوت ترسلن طبقا مغطى إلى جارة معينة وكانت الجارة تعيد الطبق إلى صاحبته مغطى كذلك، حيث كن يتبادلن ما يصنعن في المطبخ طوال اليوم. إضافة إلى تبادل بعض أطباق “السفوف” أو “البغرير” من أجل التذوق.
كان رمضان في الزمن الجميل، بسيطا ببساطة الأشياء والناس وفضاء الدروبة، وكان الناس يتبادلون ويتقاسمون الأطعمة بين بعضهم البعض، بكل أريحية قبل أن تتعقد العلاقات الاجتماعية وتستوطن روح الفردانية، وتحدث شروخ وأعطاب حتى داخل الأسرة الواحدة لأسباب عولمة ومدنية مزيفة أتت على كل ما هو جميل،..
أما مائدة الإفطار، فكانت بدورها بسيطة جدا وصحية تحتوي على الحريرة الطرية والتمر والشباكية والبيض البلدي المسلوق، والتين المجفف…..
قبل رفع أذان المغرب بقليل، يتحلق جميع أفراد العائلة وبمجرد سماع دوي صوت (الزواكة ) المنبعث من لوفيس، حتى تشرع الأمهات بغرف الحريرة من “الكاميلة” وتوزيعها على أفراد العائلة المجتمعين في لمة أسرية يطبعها الحب والوئام.
بعد الانتهاء من الأكل، يخرج الأب إلى المسجد لتأدية صلاة العشاء والأبناء إلى الحارة للعب مع أقرانهم بألعاب موسمية خاصة برمضان، و كانت أبواب المنازل غير موصدة، وتبقى مفتوحة لاستقبال الزوار من الفطور إلى وقت السحور، بفضل الأمن والسكينة التي كان يجلبها معه الشهر الفضيل، فحتى عتاة المجرمين في ذلك الزمن، كانوا لا يسرقون في شهر رمضان احتراما لقدسيته وخوفا من عواقبه…..
وهكذا كانت تمر ليالي رمضان في الزمن الجميل في أجواء ملؤها الحب والقناعة والروابط الاجتماعية الدافئة، وكانت ربات البيوت يتنافسن على عمل الخير، وتوزيع الحريرة على الجميع من ذوي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب، وابن السبيل وجميع السائلين، لأنهن كن مؤمنات بأن رمضان شهر كريم والعمل فيه أحب إلى الله من باقي الشهور.
شهر رمضان فرصة طيبة لاستعادة أجواء المحبة، ولم الشمل، ومشاركة الغير أفراحهم وأحزانهم، والتصافي والمحبة، والدخول في أجواء روحانية، بعيدًا عن منصات التواصل الاجتماعي التي أفسدت حياتنا الاجتماعية.