الألباب المغربية/ محمد خلاف
بعدما جاءت سكرة فراغ قاتل بحق؛ في فرعية ادموسى للعام الثالث تباعا؛ اذ كنت مجبرا أن أحيد عنه؛ وبعدما تغيرت معالم الفرعية جدريا بانتقال المدير سي الحسين وعلال وجميع من تعينوا معي؛ يبدو الأمر مؤلما على غرار كل الولادات؛ التحق بالوحدة جيل جديد من الخريجين ناصر من القنيطرة وعبد الهادي من برشيد وبوحدات قريبة يوسف وعزالدين وعثمان؛ بدأت بوادر نور تزحف خلف العتمة ليبتلع سواد لحظات عابرة.
بدأت الحياة تدب رويدا؛ فأصبحت المسافات دون قيمة ولا تأثير رغم طولها لتوفر أجواء من قضاء أوقات ممتعة وأنس والمبيت أحيانا بابضر أو فرعية توزومت أو مركزية ازروالن؛ رغم استحالة ذلك زمن الفصول الباردة؛ ومايحتاجه مضيفك أو ضيفك من أغطية إضافية هي كنوز ٱنذاك؛ حقيقة بدأنا الرحلات كل نهاية أسبوع لاكتشاف الذات؛ والناس والأماكن والهروب من الروتين وتكسير ملل الفرعية؛ وكذا التعرف على تجارب ثقافات إنسانية أخرى؛ كنا نسافر جماعيا بعد قطع مسافة طويلة راجلين حاملين حقائب تتوفر على متطلبات المدينة والمدنية من ملابس وأغراض الحمام؛ وغير ذلك؛ لنصل الطريق المعبد بأفوكالن؛ وانتظار خطاف كان أشهرهم المسمى..( أعلوش).. أو عابر سبيل يوصلنا ملتقى طريق تافراوت او النيميرو دلحاج؛ بلغة أهل المنطقة؛ وانتظار طاكسي تيزنيت أو إحدى حافلات بلدي المتوجهة الى الدار البيضاء.
الوصول الى تيزنيت السبت مساء كان بمثابة طوق نجاة؛ نسارع الزمن للظفر بحمام ساخن؛ والحلاق العربي بزنقة البير المشهور بعلاقته بالمعلمين؛ حيث تجد مجموعة حقائب وأغراض المعلمين القادمين من كل فج عميق؛ بعد الاهتمام بالهندام وأخذ مفتاح الغرفة بأحد فنادق المدينة الرخيصة؛ وكانت العادة أن كل دوار له فندق معروف به سواء لكون مالكه ابن الدوار أو لأسباب أخرى كحسن المعاشرة والألفة. كان المعلمون العاملون بوحدة ادموسى يقصدون( فندق سوس) لكون صاحبه (اسلميون) ابن منطقة ادبلا القريبة من المدرسة ومن أطيب الناس تعاملا؛ نقصد أشهر مطبخ ٱنذاك معروف بالشنديوتشات السريعة قرب سينما الباهية الأنيقة التي كنا نتلذذ بمشاهدة أفلام جديدة وطويلة بها؛ وأتذكر مشاهدتي بها لفيلم (تيتانيك)؛ بعد الأكل ولعب الكولفازيور؛ يقصد غالبية المعلمين الهاتف المشهور (هاتف الناموس) قرب البنك الشعبي الوحيد ٱنذاك لمهاتفة العائلة والوقوف أمامه حيث ملتقى الكل بالمدينة؛ بعد ذلك نقصد مقهى كانت سيدة عصرها انذاك بداية الألفية الثانية( la ville nouvelle) بقهوتها وحلوياتها واتقانها للحريرة وكذا بشرفتها المطلة على المدينة؛ لا نشعر بقيمة المال وطريقة صرفه؛ فقط نبحث عن ملذات نفتقدها بالفرعية؛ الأحد صباحا نبدأ رحلة الاستعداد للعودة عبر تفاصيلها الخطيرة؛ بعدما وطدنا وشائج محبة بيننا وعملنا الى إقامة علاقات جديدة بين معلمين ٱخرين.
تعرفت من خلال رحلاتي المتكررة خلال السنتين الأخرتين من عملي بتزنيت على أهم معالمها كالقصبة المخزنية والعين الزرقاء والقصر الخليفي ومسجد تيزنيت الكبير وشاطئ اكلو الجميل والمحترم؛ اضافة الى شواطئ ميراللفت الجذابة؛ ربحت علاقات قوية داخل المدينة؛ مستلهما قولة الإمام الشافعي عن أهمية السفر وفوائده في تفريج الهم والترويح عن النفس؛ واكتساب المعيشة والعلم والٱداب ورفقة إنسان ماجد؛ومصداقا للحديث النبوي (سافروا تصحوا وتغنموا).
اكتشفت بمعية رفاقي الجدد مدينة اكادير وشاطئها الجميل وحديقة الطيور؛ وسينما السلام الصامدة؛ مدينة كلميم وموسم الجمل؛ مدينة تافراوت وظاهرة الصقير الفريدة وموسم الزواج الجماعي؛ مدينة افران الأطلس الصغير الهادئة الصغيرة؛ كان همنا بصدق رحلات اكتشاف الحقيقة؛ سبق أن وصفها مارسيل بروست بأنها لا تكون بالبحث عن أراض جديدة؛ بل بالحصول على بصائر جديدة.
تغيرت أجواء العمل بالفرعية أصبحنا ننتظر يوم السبت بفارغ الصبر؛ رغم أن الرحلة تكلف ماديا؛ الا أنها تجعلنا نتجاوز أوقات الشدائد الجميلة كما يقول الزعيم مالكوم اكس؛ وتجعلنا نتصالح مع تفاصلينا الصغيرة التي أدركنا أنها أكبر ما يربطنا بيوميات هذه الحياة الثقيلة؛
بمجرد نهاية الأسبوع الحافلة؛ حتى نعود الى الروتين القاتل ويبدأ التفكير في مغامرات أخرى أرحم منه؛والتفكير بجد في الانتقال الى مكان ٱخر وهو موضوع اليومية المقبلة..