الألباب المغربية/ سمير السباعي
يحتل الكتاب الورقي في ثقافتنا المغربية مساحة أصيلة في فعلنا الثقافي الجمعي سواء على مستوى التلقي أو الإنتاج بغض النظر عن ما يقال حول تأثير سلطة الرقميات الجديدة التي فرضت أنماطا أخرى من سرديات المقروء على الشاشة تحت مسميات عديدة وما يطرحه الأمر من تساؤلات راهنة، حول ماهية التأثير التي لا يزال الكتاب الورقي رسمها بشكل دينامي ومنتج داخل مناخنا الثقافي العام. وبطبيعة الحال مهما أسهبنا الكلام في هذا النقاش فلا يمكننا تجاوز حقيقة معرفية أن المنجز الورقي يظل عمليا وسيطا ثقافيا بامتياز يستطيع من خلاله المتلقي الجمعي، عبر فعل القراءة أن يتماهى مع الإنتاج الفكري الإنساني في مجالات عديدة ويجعل من هذا التماهي والحوار القرائي بؤرة لتوليد أنماط من التفاعل المنتج داخل ممارستنا الثقافية المجتمعية، شريطة أن يجد المتلقي فضاءات تسمح له بالتعرف على هذه المقروءات عن قرب واقتناءها بأثمنة مشجعة تحفز على استمرار ثقافة شراء الكتب ليس كسلع ترفيهية كمالية وإنما كبضاعة ثقافية من واجب المواطنين والمواطنات التعامل معها كممارسة حضارية واعية.
ضمن هذا الإطار، تنظم جمعية نادي القلم المغربي بتنسيق مع مقاطعة الفداء بالدار البيضاء وبشراكة مع جمعية الكتبيين البيضاويين من 26 يونيو إلى غاية 20 يوليوز2025، الدورة 13 من المعرض الوطني للكتاب المستعمل بشارع موديبوكيتا بدرب السلطان بالعاصمة الاقتصادية للمملكة قرب إعدادية الغزالي، تحت شعار “الكتاب المستعمل ذاكرة تتحدى النسيان” في إعلان عن عودة الروح إلى تجربة ثقافية ظلت على مدى أكثر عقد من الزمن تحتل لها مساحة نوعية في مشهد الفعل الثقافي البيضاوي خصوصا والمغربي عموما. ويأتي تنظيم هذه الدورة تأكيدا لرغبة الانتصار من جديد للعمل الثقافي في عمقه الميداني الجماهيري، طالما أن الفكرة مبنية أساسا على تمكين مجموعة من الكتبيين عرض كتبهم المستعملة أو القديمة بالتعبير الدارج بشكل مباشر أمام الجمهور في فضاء عمومي مفتوح يسمح باضطلاع هذا المستهلك(ة) أو ذاك على مجموعة من المنجزات الثقافية المكتوبة والتي هي في غالبيتها عبارة عن عناوين بطبعات قديمة سبق استهلاكها قرائيا من طرف مستهلكين سابقين إلا أن الدورة الاقتصادية الخاصة بمثل هذه المعروضات أمكنت الجمهور من الالتقاء معها من جديد. وبقدر ما تعلن هذه الكتب بين أوراقها عن زمنية ثقافية سابقة في القراءة، بقدر ما تنطق عن عراقة في الموضوعات المطروحة تمكن المتلقي وزوار المعرض نسبيا من الإمساك بإنتاجات ذات قيمة وراهنية كبيرة حتى اليوم لكتاب ونقاد وقصاصين وفلاسفة وآخرين وآخريات ينتمون لجغرافيات ثقافية متعددة لا يمكن حقيقة نكران القيمة النوعية التي ساهموا بها من خلال هذه الإنتاجات في رسم معالم مشهدنا الثقافي والتعليمي والتربوي على امتداد أجيال مغربية عبر الزمن. مع العلم أن شعبية الفضاء المحتضن للمعرض وتواجده في قلب حي تاريخي كدرب السلطان بالدار البيضاء، يعطى الانطباع وكأننا أمام احتفالية شعبية بالكتاب من طرف فئات عمرية متنوعة ترى في الأثمنة الشبه الزهيدة لما هو معروض من كتب فرصة للتصالح مع القراءة عبر اقتناء عناوين مختلفة تستجيب للحاجيات الثقافية وتحترم في نفس الآن القدرة الشرائية لكل مستهلك على حدة. ومن ما ينبغي صراحة الوقوف عليه هنا أن المعرض ومن خلال دورته الثالثة عشر أبان عن قدرة الكتاب المستعمل عمليا، أن يظل جسرا وأرضية لإنتاج أشكال ثقافية متعددة، على اعتبار أن الخيمة الثقافية التي أقيمت بنفس فضاء المعرض احتضنت ومنذ بداية هذا العرس القرائي مجموعة من الأنشطة الموازية القيمة التي شارك من خلالها فاعلون ثقافيون وكتاب ونقاد من مشارب معرفية متعددة في تقديم قراءات منتجة حول مجموعة من السرديات والإصدارات القديمة الجديدة خاصة في القصة والرواية والتاريخ والثقافة الشعبية إلى جانب تنظيم ندوات فكرية قارب من خلالها مجموعة من المتخصصين والباحثين قضايا الذاكرة الجمعية والكتابة النسائية وسؤال القراءة ومواضيع بشكل مفتوح للنقاش العام مع الجمهور الزائر للمعرض. ولا يمكن إلا الإشادة بهكذا ممارسة ثقافية باستطاعتها أن تجعل من الثقافة فعلا مجتمعيا لصالح الجماهير الشعبية بعمق تنموي محلي جهوي ووطني لأنها تراهن على سرديات الكتاب المستعمل، الذي ظل وسيستمر دالا على فعل للقراءة وسط المجتمع يتم إنتاجه وممارسته منذ عقود بشكل شعبي بين المواطنين ونوستالجيا الجمعي لا تزال تستحضر إلى الآن، ممارسات تبادل الكتب بين المولعين بالقراءة في الأحياء الشعبية أو شراءها من أحد أكشاك ومحلات بيع الكتب المستعملة وذلك لتلبية حاجات قرائية ذاتية أو للحصول على كتب مقررة في البرنامج الدراسي بأحد الأسلاك التعليمية، بشكل ظل يخفف حتى الآن من الأعباء المادية لعدد من الأسر في تغطية مصاريف شراء عدد من الكتب المدرسية على وجه الخصوص. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إلا تثمين هذه التجربة الثقافية واستشراف أفق تحويلها إلى مشروع ثقافي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، إن على مستوى تظافر جهود كل الفعاليات الثقافية الرسمية والرسمية من أجل ضمان استمرارية تنظيم هذا المعرض وتوفير ما يحتاجه من لوجيستيك في هذا الإطار أو على مستوى البحث عن إنتاج ممارسات ثقافية من داخل المعرض نفسه تخدم الفعل الثقافي المرجو انبثاقه وسط الجمهور الشعبي من قبيل الجلسات مع الكتاب والندوات الفكرية والأيام الدراسية والورشات القرائية لصالح الناشئة والعموم والمسابقات الثقافية التربوية إلى غيرها من الأنشطة التي بإمكانها جعل المعرض مناسبة حقيقية لفعل ثقافي غير طقوسي بالمعنى المتداول للكلمة وإنما محطة لإنتاج ممكنات صناعة ثقافية بعمق تنموي لصالح الفئات الشعبية المحلية بأفق سياسي ورسمي يؤمن بأن الثقافة مشروع واعد للتنمية المجالية، مع تسجيل أن الحاجة أصبحت ملحة للتفكير في فضاء شعبي أكثر رحابة على مستوى المساحة في منطقة ترابية إما داخل درب السلطان الفداء أو غيرها من المناطق البيضاوية لنمنح المعرض فرصة الاتصال مع أكبر قاعدة جماهيرية شعبية ممكنة، وذلك لبث روح التنوير والعمل الثقافي في عمقه القاعدي الشعبي داخل هذه المدينة لجعلها تستنشق أوكسجين الثقافة عن قرب بتفاعل عضوي ميداني بعيدا عن طقوسيات القاعات المغلقة والجدران الثقافية الصماء.
إلى ذلكم الحين كل عام والفعل القرائي بالمغرب بألف خير.