الألباب المغربية/ محمد خلاف
عندما نعود إلى مكان كان صاخبا ومليئا بالإثارة في وقت مضى؛ كان محل تلاق وتلهف وحدث؛ تجتاحنا أحاسيس دافئة؛ ووجد لتلك الذكريات؛ غير أن هذه الأماكن لا تساوي شيئا وهي خالية ممن نحب؛ أماكن بروائح يمكن تميزها دون إبصار لأنها ولدت بروح سرمدية تأبى الموت والإندثار؛ بذكريات عالقة بها لا تنسى تفاصيلها مع مرور الزمن؛ نقشت في وجداننا نقش الحديد في الحجر؛ تنطق بهمسات وكلمات وأحاسيس أو حتى بصمت غريب؛ فكم عجيبة ذاكرتنا؟ وكم مدهشة أمكنتنا؟.
ومن الأمكنة القديمة بالفقيه بن صالح “سينما كاليبسو” بشارع الحسن الثاني؛ بتاريخ عتيق يعود إلى الستينات؛عالم مظلم إلا من ستار أبيض؛ تنعكس عليه أشعة الكاميرا لكي تضيئه من خلال الصوت والصورة المتحركة التي تبرز عليه؛ سميت كاليبسو تيمنا بحورية خالدة وبارعة الجمال في الأساطير اليونانية؛ شكلت إشعاعا ومجدا ثقافيا متميزا بلاربعا؛ كانت تعرض أفلاما من مختلف دول العالم؛ كما كان نادي العين الذكية يستغل القاعة في عرض أفلام ذات محتوى سياسي وثقافي؛ يناقش مضمونها من قبل منخرطي السينكلوب الذين يحضرون بكثافة؛ كما احتضنت العديد من الأنشطة الثقافية والأعمال المسرحية؛ كانت تتكون من قاعة سفلى ثمن دخولها في السبعينات 1،75درهم؛ وقاعة عليا بثمن 2،50 درهم؛ بكراسي صلبة؛ وزحام شديد؛ وخصومات كثيرة أحيانا؛ بفيلمين طويلين ( أفلام هندية؛ أفلام الحركة؛ أفلام الكوباي أفلام رومانسية…) يتحكم في مجرياتهما أحيانا أحد الأشخاص؛ تحت وابل من التنابز بالألقاب والاحتجاج؛ والشتم والتعيير؛ دون نسيان صاحب المصباح الذي ينير الطريق بحثا عن مكان شاغر؛ والعربات المرابطة أمامها.
جسدت مدرسة قائمة الذات في تلقين المعارف والإطلاع على حضارات الغير؛ تقاسم حينها سكان لاربعا بساطة الفضاء ورحابة المكان؛ بحق كان كل من يحب الحياة يذهب إلى سينما كاليبسو؛ خاصة يوم الأربعاء؛ كانت متنفسا؛ نرتاح فيها؛ تداوينا؛ وتسكت نواقيس التوتر فينا؛ وتبصم الأمل عميقا في نفوسنا؛ كم من القصص رسمنا في مخيلتنا؟! علمتنا أشياء كثيرة؛ علمتنا كيف نعيش أكثر من حياة؛ حياة جديدة مع كل فيلم نشاهده؛ كان هوسنا بأبطالها سائر بحدة لجيل ما قبل الثورة الرقمية الحديثة؛ وكان لكل منا بطله المطلوب سميناه ٱنذاك (الولد)؛ كان ارتياد سينما كاليبسو جزء من برنامج كل واحد؛ إنها ثقافة جيل أغر؛ تجد طوابير الناس تنتظر راغبة في فرجة جماعية جميلة؛ رغم بساطة التجهيزات؛ منهم من يتعرض للضرب؛ ومنهم من يستجدي تتمة ثمن التذكرة وخصوصا صغارنا.
من صخب العروض والإشعاع الفني والثقافي؛ صارت سينما كاليبسو نسيا منسيا كغيرها من دور السينما بالمغرب؛ وصار لواقعها صورة أخرى من الإهمال والتجاهل، تحول بعضها إلى عمارات وبنايات اقتناها أثرياء؛ والبعض الآخر إلى مأوى ومرتع للمشردين؛ وبعضها تحول لمتاجر كبرى من بين ما يعرض فيها هوم سينما؛ وأغراض كثيرة أخرى؛ كل ذلك بفعل التطور الحثيث في وسائل الإعلام والتواصل والتكنولوجيا؛ تناسلت القنوات الفضائية المقدمة للأفلام الجديدة والقديمة؛ ظهر الأنترنيت واليوتوب؛ والأقراص المدمجة عبر السيدي والديفيدي؛ إضافة إلى سبب مباشر يتمثل في ارتفاع حدة قرصنة الأفلام؛ اذ تخرج آلاف نسخ الفيلم للبيع قبل عرضه؛ وأحيانا قبل المونطاج الأخير؛ وأمام دور السينما؛ مما قلص عدد المرتادين؛ وهلك دور السينما جدريا؛ مروري أمام سينما كاليبسو يشعرني بألم وأسى؛ وأعود بأفكاري لزماننا لأفتش عن الضحكات؛ عن السعادة؛ عن الأحاسيس؛ عن الأحلام؛ عن مقاعد السينما التي تحوي دفء حكاياتنا؛ لأكتب ذكراها على سطور النسيان؛ تهمس لي؛ لقد كنت يوما هنا؛ مع الأحباب والأصدقاء؛ فأبحث عنهم؛ وأتخيل الحوارات دون موضوع بذكريات مكدسة؛ إنها بمثابة عودة العاشق إلى الحبيب؛ هي الإنتماء إلى الزمان والمكان معا؛ كانت أيقونة بهية بلاربعا؛ ومعزوفة منفردة تمر في البال كلما ازداد الصخب وعلا الضجيج من حولنا؛ فدفء سينما كاليبسو لا يغادر الوجدان؛ ترانيم ماضيها؛ تطل وتعزف أجمل الألحان؛ إنها مكان احتضان الذكريات؛ كنا السيناريو؛ وكنا المخرج؛ ولعبنا جميع الأدوار؛ ذكراها في محبرة الأيام؛ على شرفات الجمال؛ فمتى نحب الحياة لنعود إلى السينما ؟ لأنها سحر وحياة؛ وأكاد أقول إن الذي لايعرف السينما؛ ومعنى دخول ظلام هذه القاعة لا يعرف معنى الحياة.
مع إهداء خاص إلى روح وليام فريز مخترع السينما؛ وإلى سقف كاليبسو الشاهد على الأحلام.