عزيز لعويسي
الانتخابات التشريعية السابقة، لم تسقط فقط، مصباح البيجيدي، بل وأخرجته قسرا من دائرة الضوء السياسي، وعبدت الطريق أمام الحمامة الزرقاء لتحلق بعيدا محفوفة بالجرار والميزان، وبين السقوط “البيجيدي” الذي وصف بالكبير، وسطوع نجم الحلف الثلاثي، كان الدرس عميقا، في أن الصعود إلى منصة السياسة، يقتضي أولا استخلاص العبر ما ظهر منها وما بطن من درس المصباح، الذي بقدر ما اقتحم المجد السياسي من بوابته الواسعة، بقدر ما غادرالسياسة من الأبواب الخلفية “صغيرا” و”وضيعا”، ويقتضي ثانيا، الإصغاء إلى نبض الشعب، الذي بات يتملك أكثر من أي وقت مضى، سلطة “العقاب” كما حدث مع مصباح البيجيدي.
بين المصباح الذي رحل والحمامة التي حلقت بعيدا بمعية حليفيها، كان الأمل في أن تتغير ألوان السياسة، ويرتفع منسوب الثقة في الحلفاء الجدد، بعدما وصل هذا المنسوب إلى مستوياته الدنيا خلال التجربة السابقة، لكـــن للأسف، أصرت السياسة أن تحتفظ بذات الألوان، لنكون مرة أخرى، وجها لوجه أمام واقع سياسي، بات أشبه بمسرحية نمطية، تعاد كل خمس سنوات، بذات السيناريو وذات الإخراج وذات الممثلين رغم اختلاف وتباين الأدوار، وبذات اللغط والجدل واليأس والإحباط وانسداد الأفق والاحتقان.
ما أثاره ولازال يثيـره امتحان الأهلية لمزاولة مهنـة المحاماة من جدل ولغط تجاوز حدود الوطن، ومن ردود أفعــال غير متحكم فيها، دافعة نحـو المزيد من اليأس وخيبات الأمل والاحتقان المجتمعي، ما هو إلا مـرآة عاكسة، لمشهد سياسي يدعو إلى القلق، لما له من إسهام في إشاعــة ثقافة اليأس والإحباط في أوساط شرائح واسعة من المجتمع، وتكريس لنفور المواطنين من السياسة والسياسيين، ومن استخفاف بالسلم الاجتماعي، وقبل هذا وذاك، من ضرب لمصداقية المؤسسات، ومساس بصورة الوطـن وإشعاعه الإقليمي والدولي.
قبل أسابيع، سطع نجم المغرب في المشارق والمغارب، بفضل ما حققه أسود الأطلس في مونديال قطــر من إنجاز كروي استثنائي غير مسبوق في تاريخ كرة القدم العربية والإفريقية، وهذا الانجاز الخالد، ما كــان له أن يتحقق على أرض الواقع، لولا “النية” التي طالما رددها الناخب الوطني وليد الركراكي، والتي تعني في شموليتها “الوطنية الحقة” و”روح المسؤولية” و”التضحية” و”الوفاء”، و”نكران الذات” و”النزاهة” و”الشفافية” و”الاستقامة” و”الإخلاص لله والوطن والملك”، وللأسف، جليد البهاء الكروي المونديالي، ذاب بشكل فجائي، تحت أشعـة ما برز في سياق المونديال من انحرافات سلوكية ارتبطت بفضيحة الاتجار في التذاكر، وما رافق امتحان المحاماة من جدل تجاوز الحدود، وما بات يعيشه المجتمع من طقــوس الرفض والإحباط واليأس وانسداد الأفق والاحتجاج، في غياب “الحلول المبتكرة” القادرة على إطفاء جمـرة الاحتقان.
ما نعيشه اليوم، من “ضيق سياسي”، يقتضي أن تتملك الحكومة الاجتماعية، “سلاح النية”، وأن تنظر للشعب بمنظور جديد، مبني على “الإنصات” و”التفاعل” و”التجاوب” و”الاحترام”و”التقدير”، بعيدا عن لغة “الفانتازيا” و”العنتريات “و”التهكم” و”التعالي”و”الاستقواء” والتحدي”، وأن تنكـب على استرجاع الثقة التي وصلت إلى مستويات دنيا، في ظل حمى الأسعار وارتفاع تكاليف العيش، عبــرالتفكير في بلورة “حلول مبدعة ومبتكـرة” من شأنها احتواء بــؤر اليأس والإحباط وتذويب جليد التــوتر والاحتقان في عدد من القطاعات، وفي طليعتها “التعليم” الذي بات ساحة احتقان بامتياز.
رهانات الإقلاع التنموي الشامل، ومقاصد تقوية الجبهة الداخلية، وتحديات دعم قضية الوحدة الترابية للمملكة، وما يرتبط بذلك، من يقظة وجاهزية واستعداد، للتصدي لمختلف دسائس ومؤامرات خصوم وأعداء الوطن، كلها مبررات مشروعة، تفرض مسؤولين حقيقيين في مستوى الرهانات والتحديات القائمة، ينصتون لنبض الشعب، ويخدمون الوطن ومصالحه العليا والمصيرية بوطنية حقة، تحضر في رحابها قيم “المسؤولية” و”الالتزام” و”المصداقية” و”الشفافية” و”التضحية” و”الوفاء” و”الإخلاص”، بعيدا عن خطاب “الاستقواء” ولغة “التحدي” و”الاستعلاء والتحقير” أحيانا”.
ما حدث في امتحان المحاماة، وما يحدث في قطاع التعليم منذ سنوات، من مشاهد اليأس والتوتر والاحتقان، لا يمس فقط بالسلم الاجتماعي ولا بمصداقية المؤسسات، بل ويؤثــر بقصد أو بدونه على تماسك الجبهة الداخلية، التي طالما نادى جلالة الملك محمد السادس، بدعمها وتمتينها، في عدد من الخطب الملكية السامية، باعتبارها مدخـلا لامحيد عنه، لكسب مختلف رهانات التنمية الشاملة، ذات الصلة بالنموذج التنموي الجديد، وقاعدة خلفية، تسمـح بالتصدي لمختلف مناورات ودسائس خصوم وأعداء الوطــن.
وعليه، فمن غير اللائق ومن غير المقبول، أن ينجح المغرب في عدد من الجبهات التنموية والاقتصادية والرياضية والدبلوماسية والإشعاعية، التي رفعت من شأن المملكة إقليميا ودوليا، وفـي ذات الآن، لازالت تحضر بيننا، بعض الممارسات والسلوكات غير المسؤولة، التي تضر بصورة الوطن وإشعاعه ومصالحه العليا، وتمنــح الأعداء والخصوم والمتربصين فرصا من ذهب، لممارسة المزيد من التحرش والاستفزاز في حقنا. وباسم الوطن الذي يجمعنا، لم يعد ممكنا الاستمرار في سياسة التطبيع مع سياسة العبث، وآن الأوان، لتفعيل آليات “ربط المسؤولية بالمحاسبة” و”عدم الإفلات من العقاب”، وشن معركة حامية الوطيس ضد الفاسدين والعابثين والوصوليين والانتهازيين والأنانيين، الذين لا يجدون حرجا، في عرقلة عجلة البناء والنماء.
إذا كنا نقر جميعا أن “مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس”، فلابد أن نقر في ذات الآن، أن هذا المغرب الجديد، لابد من حمايته من كافة أشكال الفساد بكل تمظهراته، وتخليصه من شر بعض المسؤولين “الأنانييـن”، الذين يجعلون من العمل السياسي وما تجود به السياسة من مناصب وكراسي، مضمـارا للركض وراء المصالح والمكاسب ، على حساب مصالح الوطن وقضاياه المصيرية.
امتحان المحاماة، ما هو إلا شجرة في غابة العبث السياسي، ومشهدا من مشاهد ما بات يعتري بعض المسؤولين من مشاهد العبث والأنانية والجشع والانتهازية، وما أثاره ويثيـره هذا الامتحان من نقاشات متعددة المستويات، هو أمر صحي، يقــوي الانطباع أن المجتمع لازال حيا ويقظا، وهذا المجتمع لايطالب إلا بالمساواة والعدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص والاحترام والتقدير، وبمسؤولين حقيقيين، يصغون إلى نبــض الشعب، ويتفاعلون إيجابا مــع قضاياه وانتظاراته، بمسؤولية والتـــزام واحترام، عبر بلـورة سياسات عمومية، تــزرع الأمل وترفع من منسوب الثقة، وتقــوي الإحساس الفردي والجماعي، أن مغربا آخر، آخذا في التبلور والتشكل.
ونختم بالقول، أن الجدل الذي رافق امتحان المحاماة، يقتضي تدخلا قضائيا مستعجلا، عبر فتح تحقيق قضائي لمعرفة حقيقة ما جرى، ليس فقط تنويرا للرأي العام الوطني وإحقاقا للحقوق، بل ولإدانة كل من ثبت ضلوعه في أي تلاعب محتمل بنتائج الامتحان المثير للجدل، من باب “ربط المسؤولية بالمحاسبة” و”محاربة الفساد السياسي”، حرصا على هيبة القانون ونجاعة القضاء وحفاظا على مصداقية المؤسسات، وسمعة البلد في محيطه الإقليمي والدولي، على أمل أن يتم القطع مع “سياسة العبث” أو “عبث السياسة”، احتراما للوطن، وإسهاما في إشعاعه وبهائه.