الألباب المغربية/ د. حسن شتاتو
- البدايات: من اليد العاملة إلى الاستقرار في أوروبا
في أواسط الستينات وبداية السبعينات، كانت أوروبا في حاجة ماسة إلى اليد العاملة نتيجة التوسع الصناعي بعد الحرب العالمية الثانية. فتمّ استقدام آلاف العمال من دول الجنوب، أبرزها المغرب والبرتغال وإسبانيا، لسدّ هذا الخصاص في قطاعات الصناعة والمناجم والبناء.
لكن مع اندلاع أزمة البترول في السبعينات وما رافقها من ركود اقتصادي عقب الحرب العربية الإسرائيلية، بدأت الحاجة إلى اليد العاملة تتراجع. فاختار أغلب البرتغاليين والإسبان العودة إلى بلدانهم القريبة، بينما فضّل المغاربة البقاء، إذ وجدوا في أوروبا – خاصة في هولندا وبلجيكا وفرنسا – ظروفاً معيشية أفضل من العودة إلى واقع اقتصادي صعب في المغرب.
- من إقامة مؤقتة إلى مجتمع مستقر
مع مرور السنوات، استقر هؤلاء العمال في المدن الأوروبية وجلبوا زوجاتهم وأبناءهم، فتحول وجودهم من مؤقت إلى دائم. ومع ضعف الدخل، سكنوا في أحياء هامشية منخفضة الكراء، ما أدى إلى نشوء تجمعات مغلقة اجتماعيًا وثقافيًا، عُرفت لاحقًا بـ”الغيتوهات”.
ساهمت هذه العزلة، إلى جانب ضعف إتقان اللغة وغياب فرص التكوين، في بقاء كثير من المغاربة على هامش المجتمع الأوروبي، يمارسون أعمالًا شاقة يرفضها السكان الأصليون، دون رؤية واضحة لمستقبلهم أو لأبنائهم.
- التحول عبر التعليم
بدأ التغيير الحقيقي مع الجيل الثاني والثالث من أبناء الجالية، خاصة أولئك الذين استفادوا من التعليم الأوروبي وتعلموا لغته وثقافته. فقد أدركوا أن المدرسة هي السبيل الوحيد للاندماج والارتقاء الاجتماعي.
لكن لا يمكن إغفال الدور الريادي الذي قام به المغاربة الذين هاجروا إلى أوروبا بعد أن تلقّوا قدراً من التعليم في المغرب. هؤلاء امتلكوا أساساً معرفياً مكّنهم من تعلم اللغة بسرعة، وفهم النظام التعليمي الأوروبي، ثم متابعة دراستهم بنجاح. لقد كانوا النواة الأولى لثقافة التعليم داخل الجالية، فشجعوا أبناءهم وأقاربهم على الدراسة، وأصبحوا قدوةً ومصدر إلهام للآخرين.
ومع مرور الوقت، بدأنا نرى مغاربة في مواقع متميزة في مختلف المجالات: الطب، الهندسة، القانون، الإعلام، والرياضة. وأصبح الجيل الثالث بالخصوص أكثر وعيًا بهويته المزدوجة، وأكثر إقبالًا على التميز الدراسي والاجتماعي.
- فجوة الوعي التاريخي والثقافي
رغم هذا التحول الإيجابي، ما زال الكثير من أبناء الجالية يفتقرون إلى معرفة عميقة بتاريخ المغرب وثقافته. فالتعليم في بلدان المهجر لا يقدم صورة متكاملة عن الهوية المغربية، كما أن المغرب نفسه لم يضع بعد برامج تربوية وثقافية منتظمة لتعزيز ارتباط الجيل الجديد بوطنه الأم.
ولذلك، تبقى فئة قليلة فقط هي التي تمتلك وعياً متجذراً بالانتماء الوطني والثقافي، وهي التي تحاول نقل هذا الوعي إلى الأجيال الصاعدة.
- المغرب والجالية: نظرة اقتصادية أكثر منها استراتيجية
لا يزال المغرب ينظر إلى جاليته في الخارج كمصدر للعملة الصعبة، أكثر من كونها رأسمالًا بشريًا وعلميًا يمكن استثماره في التنمية الوطنية.
غير أن التجارب أثبتت أن أبناء الجالية قادرون على الإسهام بفعالية في نهضة الوطن، كما حدث في ميدان الرياضة، حيث ساهم اللاعبون المغاربة المزدوجو الجنسية في تحقيق إنجازات كبرى مثل مونديال قطر 2022 والألعاب الأولمبية في باريس ولقب بطل العالم للشبان في الشيلي.
- كفاءات مغربية مهملة في الخارج
داخل الجالية المغربية توجد كفاءات أكاديمية وطبية وهندسية رفيعة، تحمل حبًّا صادقًا للوطن، لكنها كثيرًا ما تصطدم بالبيروقراطية أو اللامبالاة.
ويكفي مثال الطبيب المغربي المقيم في هولندا الذي أرسل مشروعًا متكاملاً لإصلاح قطاع الصحة في المغرب، دون أن يتلقى أي رد أو تجاوب رسمي. هذه الحالات تعكس فقدان المغرب لفرص ثمينة كان يمكن أن تسهم في تطوير سياساته العمومية.
- من تحويلات مالية إلى شراكة وطنية
لقد تحوّل حضور الجالية المغربية في الخارج من مجرد يد عاملة مؤقتة إلى قوة فكرية واقتصادية وثقافية تمثل صورة المغرب الحديثة في العالم.
ولكي يكتمل هذا التحول، على الدولة المغربية أن تعيد النظر في علاقتها بأبنائها في المهجر، عبر إشراكهم في صنع القرار والاستفادة من خبراتهم، حتى لا يبقى دورهم مقتصرًا على التحويلات المالية، بل يتحول إلى شراكة حقيقية في بناء المستقبل