الألباب المغربية/ د. حسن شتاتو
اليوم، وأنا أمارس عملي طبيبًا في هولندا، عاينت حالة وفاة كما أفعل بين الحين والآخر. دخلت الغرفة بهدوء، جلست قرب الجثمان، استمعت إلى الزوج وهو يروي ما حدث، ثم كتبت شهادة الوفاة وبيان السبب وسلمتهما له مباشرة، حتى يتمكن من توديع رفيقة عمره بسلام.
كانت لحظة صمتٍ ووقار، كما ينبغي أن تكون دائمًا لحظة الموت: إنسانية، بسيطة، خالية من الجلبة والتوتر. غير أن تلك اللحظة أعادتني على الفور إلى ذكرى مؤلمة: وفاة أبي رحمه الله في المغرب. هناك، كانت الأمور مختلفة تمامًا.
جاء الطبيب لمعاينة الوفاة، لكنه افتقد لأدب المهنة الذي تفرضه رهبة الموت، كان يتحرك في الغرفة دون سكينة، يطرح الأسئلة ببرودٍ وكأنه محقق لا طبيب، غير مدرك أنه أمام جسدٍ عاد إلى بارئه، وأمام عائلةٍ مفجوعة تستحق الاحترام لا الاستجواب.
ثم بدأت رحلة البيروقراطية الطويلة، لم نحصل بعد المعاينة على شهادة الوفاة ولا على بيان السبب، واضطررنا إلى التوجه إلى مكتب حفظ الموتى، وهناك واجهنا المشهد المألوف في إداراتنا: أوراق، توقيعات، انتظار، ووجوه جامدة لا تُبالي بمشاعر الناس.
صادفنا الطبيب نفسه في الممر، فقال ببرودٍ مؤلم: “ستحصلون على شهادة سبب الوفاة بعد ستة أسابيع تقريبًا”.
انسحبت في صمت، حتى لا يتحوّل حزني إلى غضب. وفي اليوم التالي، عاد أخي وحده إلى المكتب، فالتقى سيدة طيبة أدّت عملها كما يجب، بلباقة وإنسانية. وقّعت الطبيبة المناوبة الأوراق فورًا، فسلّمته الشهادة في دقائق.
كانت تلك اللمسة البسيطة من الرحمة أعمق من كل الإجراءات، لأنها جاءت في لحظةٍ يحتاج فيها الإنسان إلى قلبٍ لا إلى ختمٍ إداري.
ومنذ ذلك اليوم، أدركت أن المسافة بين الطب والإنسانية لا تُقاس بالمساطر ولا بالقوانين، بل بالضمير.
فالطبيب، حين يُعاين الموت، لا يُمارس عملاً تقنيًا فحسب، بل يقف على عتبة الروح. إن تصرّف بوقارٍ واحترام، أعان الأحياء على تحمّل الفقد، وإن تعامل ببرودٍ وبيروقراطية، عمّق الجرح وبدّد معنى الرحمة. الموت واحد في كل مكان، لكن الطريقة التي نتعامل بها معه هي التي تكشف مدى إنسانيتنا..