الألباب المغربية/ الحجوي محمد
انبثق من أعماق الأرض، ليس مجرد مهرجان، بل نبضٌ يعتلي صدر الهضاب في نواحي العطاوية بإقليم قلعة السراغنة، إنه مهرجان “بويا عمر”، الذي انطلقت دورته مع ثاني أيام الأسبوع، ليرسم بحروف من نور ونخوة شابة لوحةً ثقافية أخّاذة، تُحاكي بسحرها أساطير الماضي وتُزينها ببهاء الحاضر.
يتجاوز هذا الحدث كونه مجرد لقاءٍ ثقافي عابر، ليكون شاهدا على إرادةٍ صلبة وهمةٍ عالية. فخلف هذه الأضواء الساطعة والألوان المبهجة، تكمن قصة نجاحٍ لامعة لمجموعة من شباب المنطقة، الذين انتزعوا زمام المبادرة بكل جدارة وإتقان. هؤلاء الفتية لم ينتظروا من يأتي ليبني لهم مجدا، بل نهضوا بأنفسهم، حاملين على عاتقهم مسؤولية إحياء تراثهم وتنمية منطقتهم، ليثبتوا للعالم أن الطاقة الشبابية هي أقوى محرك للتنمية المحلية.
الأمر الأكثر إبهارًا ليس فقط جودة التنظيم التي تخطت كل التوقعات، بل الحكمة التي أُديرت بها الميزانية، فبمبلغٍ لا يتجاوز 320 ألف درهم (32 مليون سنتيم)، قدموا لوحة فنية متكاملة، تثير الدهشة والإعجاب. إنها إدارة رشيدة ترفع القبعة لها، حيث تحوّل كل سنتيم إلى قيمة مضافة مرئية، تثبت أن العبرة ليست في ضخامة الميزانيات، بل في نقاء النوايا وروعة التخطيط وحسن التدبير.
لم يكن المهرجان احتفاءً بالغناء والفنون الشعبية فحسب، بل كان رسالةً قوية مفادها أن الهوية المغربية الأصيلة هي كنز لا يفنى، وقصة لا تموت. كان فضاءً للالتقاء، حيث تتعانق أنغام المالوف العتيق مع همسات التاريخ، وتتلاقى الأجيال في حب واحد لأرض تدعى المغرب. إنه إعلانٌ للجميع بأن الثقافة المحلية هي أقوى سلاح في مواجهة العولمة الصامتة، وأن الشباب هم حراس هذا التراث وحُماته.
ها هو “بويا عمر” يختتم فعالياته، لكن صداه سيبقى مدوّياً في أذهان كل من حضر هذه الدورة الاستثنائية. لقد نجح شباب المنطقة في تحدي كل الصعاب، ليسطروا بأحرف من ذهب اسم منطقتهم على خريطة المهرجانات الرائدة، مقدمين للعالم نموذجاً يُحتدى به في العطاء والعمل الجماعي. إنهم لا يبنون مهرجاناً فقط، بل يبنون وطناً.