الألباب المغربية/ حبيل رشيد
في صباحٍ تتهادى فيه الخطوات على إيقاعٍ تربويٍّ مألوف، وتتشابك فيه أنفاس التلامذة مع ترقّبٍ صغير يشبه انتظار الضوء قبل بزوغه، افتتحت مجموعة مدارس اقرأ الخاصة بمدينة ابن أحمد فعاليات معرضها المحلي للكتاب، الممتدّ من الثاني إلى السادس من شهر دجنبر، في مبادرةٍ تربويّة وثقافيّة تروم إعادة الروح إلى المادة الورقية وتعزيز الصلة بين الناشئة والعالم الفسيح الكامن في صفحات الكتب. لم يكن الحدث احتفالًا عابرًا، بل بدا كأنه طقسٌ من طقوس الإحياء، تعيد من خلاله المؤسسة ترميم علاقة الأجيال الصاعدة بالكتاب، وتمنحهم فرصة ملامسة المعرفة في هيئتها الأصيلة، قبل أن تذيبها الشاشات وتستبدلها الواجهات الرقمية بأطر سريعة وملتبسة.
منذ اللحظة الأولى لافتتاح الأروقة، بان واضحًا أن المعرض صُمّم بروحٍ تجمع بين البساطة التربوية والثراء الثقافي. فقد توزّعت الكتب في مسالك مُحكمة التنسيق، تحرسها عناوين لامعة، وترسّخ حضورَ مؤلفين تركوا بصمتهم في الوجدان العربي والعالمي. كان كل ركنٍ في المعرض أشبه بخريطة صغيرة لكونٍ منسوجٍ بالحكايات والمعارف: كتب للأطفال تتلوّن بشخصيات خيالية، وأخرى تراثية تُشمّ فيها رائحة الأزمنة الأولى، وثالثة من الأدب العالمي المترجم، وروايات حديثة تتجاور مع قصص تربوية مصوّرة بعناية.
لم يكن اختيار الكتب اعتباطيًا، فقد حرصت إدارة المؤسسة على أن يكون المعرض فسيفساء معرفية تُتيح للتلامذة اكتشاف أنواعٍ متباينة من المقروء، حتى يتعلم الطفل مبكرًا أن القراءة ليست وظيفة، بل تجربة، وأن الكتاب ليس شيئًا يُقتنى فحسب، بل عالمٌ يُسكن ويُعاش. ولهذا السبب، عمد المنظمون إلى تنويع الفئات: قصص تنمية القيم، حكايات تاريخية مبسّطة، أعمال سردية مختصرة، سير ملهمة، كتب علمية مبسطة، وقصاصات معرفية تُقدّم محتوى واسعًا في صيغ موجزة.
وبين رفوف المعرض، ولدت الجملة التي تبنّاها التلامذة شعارًا لهذا الحدث: “القراءة أوّلُ طرق الارتقاء”.
جملة خرجت في البداية من فم أستاذ خلال دردشةٍ جانبية، ثم تحوّلت إلى عبارة تجول في الرواق مثل نداءٍ خافت يذكّر الجميع بأن الكتاب ليس مادة جامدة، بل سلّم صغير يُضاف إلى سلمٍ أكبر: سلم الوعي.
ومما زاد الحدث عمقًا أن المشرفين لم يكتفوا بتقديم الكتب في تشكيلاتٍ بصرية جذّابة، بل حرصوا على خلق نوعٍ من التفاعل بين التلامذة ومضامين الكتب؛ فخُصّصت مساحة صغيرة تُشبه ورشة مفتوحة، تُطلب فيها من براعم التعليم الأولي أن يمسكوا الكتاب كما يُمسك الشيء الثمين، وأن يتصفّحوه على مهل، وأن يسألوا عنه، وأن ينسجوا من خيالهم أول بذور القراءة الحرة. كان المشهد لافتًا: أطفال يجلسون على الأرض، يحملون الكتب كما تُحمل الألعاب الجديدة، يضحكون للصفحات المصورة، يحاولون فهم رموزها وألوانها، فيما المدرسون يرافقونهم بهدوء، يشرحون لهم، ويعلّمونهم أن الكتاب ليس غريبًا، بل قريبًا منهم بقدر اقتراب الأسئلة من عقولهم.
وفي الأروقة الأخرى، كان التلامذة الأكبر سنًّا يتجوّلون في صمتٍ تلميذي معروف، لكن بفضولٍ غير مألوف. بعضهم يتوقف أمام الكتب التاريخية، وآخرون أمام الروايات، وثمة من أخذ يبحث عن دفاتر تتضمن اقتباسات أدبية. وقد كان لافتًا كيف تغيّرت ملامح عدد كبير من التلامذة حين وجدوا كتبًا كانت تُذكر أمامهم في الدرس، فإذا هي الآن أمامهم، ملموسة، تُفتح وتُقرأ. بدا ذلك الانتقال من المعرفة المروية إلى المعرفة المعاشة خطوة صغيرة، لكنها ذات أثر.
وفي حديثٍ مع أحد الأساتذة المشرفين، أوضح أن هذا المعرض لا يراد منه فقط بيع الكتب أو عرضها، بل “زرع لحظة”، لحظةٍ يدرك فيها التلميذ أن الكتاب قادر على أن يحوّل تفكيره، وأن يوسّع رؤيته، وأن يمنحه لغة جديدة يطلّ بها على العالم. وأضاف أن المؤسسة تنحاز دائمًا لفكرة أن القراءة ليست ترفًا، بل حاجة تربوية ينبغي أن تُصاغ في شكل عادات، لا مناسبات.
أما مدير المؤسسة، فقد رأى في المعرض رسالة مزدوجة: رسالة إلى التلامذة كي يتصالحوا مع زمنٍ أكثر بطئًا من زمن الهواتف، وزمنٍ أكثر عمقًا من زمن المقاطع القصيرة، ورسالة إلى أولياء الأمور كي يدركوا أن قراءة أبنائهم ليست مسؤولية المدرسة وحدها، بل مسؤولية تُصنع في البيت حين تُقَدَّس لحظات المطالعة ويُمنح للطفل فضاؤها الهادئ.
وفي اليوم الثاني للمعرض، لوحظ أن الإقبال ازداد بشكل ملحوظ. بعض التلامذة عادوا إلى الكتاب نفسه الذي تصفّحوه في اليوم الأول، وآخرون طلبوا نصائح الأساتذة حول ما يناسب أعمارهم، وهناك من حاول كتابة ملخص صغير لكتاب اشتراه للتو. بدا واضحًا أن المعرض لم يكن مجرد واجهة للعرض، بل منصة صغيرة لتعلّم مهارة الاختيار، ومهارة التذوق، ومهارة الانتقاء الواعي للمحتوى.
وقد سجّل المعرض حضورًا لافتًا لبراعم التعليم الأولي، وهو حضور من نوعٍ مختلف؛ إذ تُدرك إدارة المؤسسة أن وضع الطفل أمام الكتاب في سنّ مبكرة يفتح أمامه أفقًا قد يمتدّ معه لسنوات طويلة. ولهذا، اختيرت لهم كتب ذات رسومات بسيطة، وألوانٍ مبهجة، وحكايات قصيرة، تسمح لهم بفهمٍ تدريجي لمعنى الرواية والحكاية والبنية السردية. ومع كل صفحة تُقلب، كان المعلمون يشرحون لهم الكلمات الجديدة، تغدو المفردة في ذهن الطفل كأنها حجر صغير يوضع في بناءٍ كبير: بناء اللغة.
وفي ركن خارج المعرض، جرى تخصيص جدار كبير بعنوان “أكتبْ أثرَ كتابٍ أحببتَه”، حيث سُمح للتلامذة بكتابة اقتباسات أو انطباعات صغيرة عن الكتب التي شدّت انتباههم. لم يكن الأمر سهلاً في البداية؛ بعض التلامذة كانوا يترددون، وآخرون يكتبون جملة ثم يمحونها، لكن بعد ساعات قليلة صار الجدار مساحة مليئة بعباراتٍ عفوية، منها ما يحمل طابعًا طفوليًا بريئًا، ومنها ما يحمل نضجًا يفوق سنّ صاحبه. بدت تلك الكتابات مثل بوصلة صغيرة تشير إلى أن الطفل لا يحتاج إلى كثير من التحريض كي يحبّ القراءة؛ يكفي أن يوضع في حضرة الكتب، وستتكفل الكتب بالباقي.
ولأن الكتب لا تكتمل دون القصص الشفوية، نظّمت المؤسسة جلسات حكواتي صغيرة يشارك فيها الأساتذة، يقرؤون مقاطع من كتب مختارة، بصوتٍ واضح، ونبرةٍ تُعيد الأطفال إلى زمن الحكاية المباشرة. جلسات قصيرة لكنها ذات أثر، جعلت العديد من التلامذة يطلبون معرفة عنوان القصة، أو استعارة الكتاب لقراءته في البيت.
أما من الناحية التنظيمية، فكان المعرض مثالًا على التنسيق المحكم: لافتات تحمل أسماء الأصناف، ألوان هادئة، مسارات تضمن انسيابية الحركة، وموسيقى تربوية خفيفة تجعل التلميذ يشعر بأنه يدخل فضاءً مختلفًا عن يومه المدرسي المعتاد. ورغم الأعداد الكبيرة، ظلّ الانضباط هو السمة الغالبة، لأن إدارة المؤسسة خصّصت لكل مستوى زمنًا محددًا للزيارة، مما سمح بإتاحة الوقت الكافي للتصفح والاكتشاف.
من زاوية أخرى، لم يفت المؤسسة أن تمنح للتلامذة فرصة اقتناء الكتب بأثمنة مناسبة، في مبادرة اجتماعية تراعي إمكانيات الأسر. وقد شكّل ذلك، في حد ذاته، عنصر جذب كبير، جعل المعرض يبدو كأنه سوق صغيرة للثقافة، تُعرض فيها المعرفة بثمنٍ ميسر، وبجودة محفوظة.
ومع توالي أيام المعرض، تبيّن أن الأثر الثقافي أعمق من المتوقع؛ إذ بدأت تظهر بين بعض التلامذة رغبة في تبادل الكتب، ورغبة في إنشاء نادي صغير للقراءة داخل المؤسسة، واقتراحات لتنظيم مسابقات تتعلّق بفهم النصوص، أو تلخيص القصص، أو نقد الكتب بأسلوب مبسط. بدت هذه الاقتراحات كأنها امتداد طبيعي لروح المعرض، وكأن العملية التعليمية بدأت تتحوّل من “تلقين” إلى “تشارك”.
وفي حديث جانبي مع إحدى المدرسات، شددت على أن هذا المعرض ليس مجرد نشاط ثقافي، بل خطوة إصلاحية صغيرة، تُنتج تلميذًا أكثر قدرة على الفهم، وأكثر جرأة في طرح السؤال، وأكثر قربًا من ذاته ولغته. وأضافت أن القراءة تُعلّم الطفل الصمت المحمود، والنقاش المدروس، والوعي بأن العالم أكبر من جدران القسم.