الألباب المغربية/ سمير السباعي
تنطق عدد من الفضاءات والتجمعات السكنية ببلادنا بذاكرة جمعية تاريخية تشهد على عراقة اتصال الإنسان المغربي بالمكان وبما أفرزه ولا يزال من محكيات، تحاول عدد من السرديات المكتوبة التفاعل مع جزء مهم منها من خلال الحفر السردي والتوثيقي في ذاكرة وجوه وأمكنة بارزة كانت لها مساهمتها الخاصة في تشكيل استمرارية ودينامية حركية المجتمع داخل هذا الفضاء التاريخي أو ذاك.
ضمن هذا السياق، نظم النسيج التربوي للفنون والثقافة بالمركب السوسيو ثقافي بشار الخير بالحي المحمدي بالدار البيضاء السبت 09 نونبر 2024 حفل تقديم وتوقيع الإصدار الجديد للكاتب حسن نرايس الموسوم بعنوان “الحي المحمدي وجوه وأمكنة- محكيات ومرويات-“.
وقد شكلت هذه اللحظة القرائية التي سير أشغال فقراتها الفنان الموسيقي عبد المجيد مشفق مناسبة حاول من خلالها عدد من النقاد والإعلاميين إلى جانب فنانين ومنتمين إلى هيئات المجتمع المدني مقاربة هذا العمل الجديد لنرايس من مداخل متعددة.
وإجمالا أمكن الإمساك بثلاثة محاور رئيسية شكلت الأرضية التي حركت نقاشات هذا اللقاء، حيث نجد أن القراءة النقدية لما جاء في الكتاب موضوع الحدث من متون سردية قد احتل مساحة مهمة في أحاديث المتدخلين، خاصة الناقد شفيق الزكاري الذي حاول من خلال حديثه الاضطلاع بتحليل كتاب نرايس من زاوية معالجة نقدية سيميائية ظهر أنها ركزت بشكل أكبر على استنطاق الدلالات الأدبية والتعبيرية التي جاءت في محكيات نرايس داخل الكتاب، حيث اعتبر الزكاري أن هذا الأخير وإن كان يظهر أنه متقاطع نوعا ما مع أشكال من السير الذاتية التي تحفل بها الخزانة الروائية المغربية لكتاب مغاربة اختاروا معانقة الجنس الروائي للحديث عن تجاربهم الوجودية مع أماكن معينة غالبا ما كانت فضاءات الطفولة والنشأة كرواية لعبة النسيان لمحمد برادة وحكاية الحي العتيق لعزيز الساطوري، فهذا لا ينفي حسب نفس المتحدث أن الصعوبة تبقى قائمة في القيام بتصنيف أدبي لكتاب “الحي المحمدي وجوه وأمكنة” طالما أن هناك تداخلا في البناء السردي لهذا الأخير إن صح التعبير والذي تتقاطع فيه السيرة الذاتية للكاتب مع محكيات سير غيرية لشخوص باح بها نرايس عبر بورتريهات إنسانية خاصة جعلها مساحة لتبوح الشخصيات المرصودة نفسها نسبيا بشكل محايد، عن انتمائها الزماني والمكاني الملتصق بواقعية العيش التي كانت تحفل بها على عقود من الزمن أمكنة من الحي المحمدي أحد الفضاءات التاريخية بالبيضاء.
وكل هذا تم حسب نفس المتدخل داخل متن الكتاب بقدرة عالية للكاتب في الوصف تجعل المتلقي أو القارئ يرسم مشهديا وجماليا الشخوص والأمكنة المحكي عنها داخل كتاب نرايس بعيدا نوعا ما عن منطق الكتابة الروائية المرتبط بتسلسل خاص للأحداث والشخوص المبني كما هو متعارف عليه أدبيا على قانون العقدة والحل.
وهو ما يتناغم مع جاء في كلمة أخرى للإعلامي أحمد طنيش الذي وقف في جزء من حديثه على دلالة البناء العام داخل متن كتاب نرايس معتبرا أن قوة ما سماها بالجملة البانية أعطت عمقا جماليا وموسيقيا لهذا المنجز.
أما المحور الثاني الذي يبدو أنه حرك بدوره أنفاس القول داخل هذا اللقاء الفكري، فارتبط بالحديث عن قيمة الجانب التوثيقي لمساحات من الذاكرة الجمعية للحي المحمدي التي حاول نرايس القيام به داخل كتابه، حيث اعتبر شفيق الزكاري أن ذاكرة أمكنة عديدة من هذا الفضاء حاضرة بقوة داخل النفس السردي للكتاب، خصوصا أن شكل الكتابة التي اتبعها هذا الأخير على صفحات منجزه ساعد على تحليل بل والتعريف بجزء من الذاكرة الجمعية للمنطقة وما تعبر عنه من تنوع ثقافي تاريخي حسب ما جاء في حديث نفس المتدخل، مع العلم أن الزكاري نفسه وكما أشرنا إلى ذلك سلفا قد اعتبر أن شكل البورتريهات المكتوبة من طرف نرايس حول شخوص من أبناء وبنات الحي المحمدي جعل هذه الأخيرة نفسها ناطقة داخل الكتاب بزخم تاريخي معين عرفه الحي المذكور على امتداد عقود سابقة من الزمن غير مصرح بها بشكل واضح إلا أنها متروكة للقارئ لكي يمسك بها ما بين سطور الكتاب حسب ما يستشف من إشارة للكاتب أحمد طنيش.
أما محاولات البحث عن تثمين هذا الكتاب، فقد شكل المحور الثالث لهذا اللقاء القرائي، حيث أكد الناقد عبد الله الشيخ في كلمة له على ضرورة استثمار هذا العمل السردي وتحويله إلى مشاريع فنية وجمالية يحضر فيها التشكيل بالتصوير الفوتوغرافي والوثائقي خصوصا أن طبيعة المادة المكتوبة المنجزة وغناها وحجمها يسمح بهذه الممكنات المعبرة فعلا على أن فضاء الحي هو ذاكرة موشومة بتعبير الراحل عبد الكبير الخطيبي على لسان نفس المتحدث.
لا ننسى أن الكاتب حسن نرايس قد أشار في كلمة خاصة له بالمناسبة أن إرهاصات المعيش اليومي التي طبعت وجوده الإنساني مع وجوه وأمكنة من الحي المحمدي بمختلف تعبيراتها وانتماءاتها الثقافية والمجالية العميقة قد أفرز نوعا من التداخل الخاص لعوالم من الحب والصراع والتمرد والاندهاش والرغبة المجهضة في التغيير داخل التجربة الوجودية الخاصة التي خاضها نرايس على مدى مراحل عمرية متعددة داخل أمكنة بالحي المحمدي، وهو ما يبدو أنه حفر أخاديده بقوة داخل ذاكرة الكاتب نفسه ما حولها إلى بؤرة لتأليف هذا الكتاب.
للإشارة ذهبت مداخلات أخرى لعدد من الفنانين والفاعلين الجمعويين، أمثال عبد الإله عاجل وحسن فولان ومحمد ظهرا إلى جانب مسير اللقاء عبد المجيد مشفق و مديرة إدارة المركب المحتضن لهذا الحفل القرائي حنان رزق، عموما هي الأخرى في اتجاه الإشادة بهذا المنجز الفكري الوليد، معتبرة أنه دلالة على القيمة الثقافية التي ما فتئ الحي المحمدي يعبر عنها كفضاء مغربي تاريخي وطني.