الألباب المغربية/ محمد خلاف
قراءة متئدة في محاولة لسبر أغوار بعض معالم الكتاب الحكائي الأخير للكاتب والباحث المحجوب عرفاوي (هناك… ترجني أوتار المكان)، المنشور عن مؤسسة مقاربات، وجدتني أسبح في عالمها المفعم بالغرائبية الواقعية كتيار متميز في الكتابة الأدبية الرصينة والمحلية بمعنى ما.. وكأنه يقول سأحدثكم عن قبلتي، حيث أن محكيات المحجوب عرفاوي تشير على ما يبدو إلى كل ما هو غير واقعي أو خيالي في نظر قارئ غريب عن بيئة بوادي المغرب العميق، وهو ما أشارت إليه بداية العنوان بكلمة(هناك) التي تفيد الإشارة إلى مكان محدد.. فهل تتغيا قارئ محدد؟..فمن خلال ركوب متن المحكيات نجد عجائبية جميلة، تثير أحداثها الاستغراب والضحك أحيانا، كما تلك التي وصفها باشلار “بخوارق أحداث النص” ، فغرائبية محكيات المحجوب عرفاوي، تعيد للقارئ حس الدهشة الذي يكتشف بها بعض الوقائع لأول مرة، وكل صورة فيها مهما كانت غريبة إلا وتميزت بعلامة البدائية الطفولية التي أرسل الكاتب بها رسائل ذات مغزى باطني صرف، كما نجدها طاعنة في عجائبية النهايات السعيدة والمثيرة والمضحكة، والمقلقة، والهادفة أيضا، كتلك التي نجدها كامنة في علم الجمال كصفة وطابع لكل ماهو غير منتظم وغرائبي، بمعنى غرابة الحكي أو عجيب الحكي عنده هو أحد أنواع المصطلحات الجمالية ويعني غلبة الكوميديا أو الضحك والسخرية الناتجة عن التناقضات التي تكمن في بنية هذه المحكيات، وهذه الغرابة تتصف بالإثارة بصفة عامة وهي تتعارض مع تصرفات إنسان اليوم أو السلوك العادي للفرد في حياته الاجتماعية التي يعيشها، وهي التعبير الشكلي للفانتازيا بعبارة أخرى أو الخيال المبدع للكاتب. ومحكيات المحجوب عرفاوي، تتميز بخاصيات متفردة حيث الأحداث والأشخاص والأشياء في انسجام تام مع مرجعية أنواع عدة من القراء من حيث التعايش إن صح التعبير والانصهار في مكونات النصوص، وبالنسبة للقارئ ونهايات المحكيات فهي لا تتعارض مع عالم وتصورات غالبيته، إلا أن الذي يتمتع جيدا هو ذلك الذي يشخص المحكيات بعين المخرج التلفزي، أو الممثل المحنك… أو الذي خبر عالم البادية بصفة خاصة…
من خلال تماهي خطاب الغرائبية في المحكيات أو منطق اللامعقول كما سماه الحبيب الدايم ربي، بوصفه خطابا جماليا، في تداخله مع أنساق الخطاب الفلسفي أحيانا، الذي يؤدي وظيفة أخد الحكمة والعبرة من تجارب الأباء والأجداد، ونزق الطفولة السعيد، نجد ثمة تلاقيا ما بين كِلا الخطابين، خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إسقاطات الخطاب الفلسفي على الجمالي في المحكيات حيث يؤكد “ديدرو” أن جمال الأشياء والوقائع القديمة لم يكن جمالاً مطلقاً، ذلك أنه عد الوقائع بحد ذاتها غير ذات أهمية من دون عنصر مهم يجمع بينها هو عنصر العلاقات المتداخلة والذي يقوم على مبدأ عادات أهل البادية، وهي التي تحدد فكرة الجمال بكل نصوص المحكيات… حيث الصدق، والإخلاص، البساطة والتواضع، والكرم، وغياب الغرور، والقدرة على خدمة الآخرين وهي صفات في متناول كل نفس وهي الأسس الحقيقية لحياتنا الروحية. ولأن البساطة هي في الواقع وفي كثير من الأحيان علامة على الحقيقة، ومعيارا للجمال. بمعنى أن الغرائبية والواقعية عند المحجوب عرفاوي هي محاكاة لواقع يتميز بالغرابة والبساطة حد البلاهة، كما حددها “تودوروف” الذي ربط مصطلح “العجائبي” بالشخصية الإنسانية سواء الشخصية الداخلة في الحكاية المقدمة أو الشخص المتلقي فهو يرى أن العجائبي هو ذلك التردد الذي أنتجه المرء العارف بالعادات القديمة حيث يلاقي حدثاً خارقاً عجائبيا، بنهاية سعيدة كما المستملحات…
عموما فالمتن السردي عندالمحجوب عرفاوي تأثر كثيرا بتقنية التحليل البنيوي للحكايات الغرائبية كما في الأدب الروسي، فكثيرا ما نجد في هذه المحكيات أن شخصياتها (الغزواني، الزنبوري، لخليفي، الجعداوي، ميمون، المرواني، الصالحي، الفطواكي، السمراني…،)، أو الطفل الذي كأنه الكاتب، تتحرك في حيز روائي عجائبي ويقصد به خروجه على المألوف، لأن الوقائع الحاكمة فيها لها القدرة على إنشاء هذا الحيز وإعطائه أسماء عجائبية عندما يصف أماكن بجغرافيا وأحداث سحرية تتصف بالتفرد، فنجد عنصر الغرائبية المخالف لمنطق الواقع والطبيعة أحيانا متمرداً على كل شيء وأعلن تمرده على كل الأشياء في الحياة وقد بلغ تمرده مبلغاً كان لا بد معه أن يصنع واقعاً جديداً، فهذه المحكيات “الغرائبية” تشكل قاعدة علمية لدراسة فكرية، تحتاج إلى مختص في المسرح، أو السينما أو التيلفزيون، لتحويلها إلى مشاهد، خصوصا أن الأحداث تدور بين دوار ومدينة مجاورة، وسوق أسبوعي، وهي بمنطق آخر دراسة لمعطيات الفكر الإنساني البدوي خصوصا في تجاذباته الفلسفية كما في توصلاته ونتائجه، في مختلف مناحي الحياة، يسعى من وراء ذلك الكاتب سعياً إلى تمكين الإنسان المعاصر من مواجهة معضلات حقيقية جديدة تفرضها عليه وقائع من “غرائبية جديدة مقززة” تسود حاضره، ويبدو أمامها عاجزاً عن إيجاد الحلول المناسبة دائما، وتستحيل معها كتابة محكيات مثيرة جميلة أخرى معاصرة كجمال هناك ترجني أوتار المكان، لأن جمال الأسلوب والانسجام والنغمة والإيقاع الجيد يعتمد على البساطة التي اتسمت بها المحكيات، وما استعمال الفعل رج الذي يعني حرك بشدة، (إذا رجت الأرض رجا)، وبأوتار وهي الحبال السميكة، القوية، إلا دليل على تمسك المحجوب عرفاوي بمحكياته المتفردة وبثقافة الزمن الجميل بشدة أكبر، وكتبها تلبية لنداء الدخيلاء وأشياء أخرى، فاصطاد هذه المحكيات كالرسام أوجين دولاكروا كما سماه الحبيب الدايم ربي… ولأن معظم الناس لايرون أنفسهم مبدعون وذلك لأنهم يربطون الإبداع بالتعقيد ولكن الإبداع هو البساطة، والخيال ونقل الواقع والاستفاذة من تجارب الحياة والسفر الذي يخبره المحجوب جيدا…