الألباب المغربية/ الحسين محامد
تتمحور مطالب الاحتجاجات أساسًا حول إصلاح قطاعي الصحة والتعليم، غير أن الدولة اختارت، في الواقع، أن تقطع أشواطًا في التخلي عنهما لفائدة الخواص بطرق غير مباشرة، من خلال التحولات التي عرفها نظام التغطية الصحية، حيث جرى الانتقال من بطاقة “راميد” إلى نظام “أمو”، في سياق يُنظر إليه من قبل المحتجين كخطوة إضافية نحو خوصصة الخدمات الاجتماعية الأساسية.
فالانتقال من “راميد” إلى “أمو” تضامن ليس مجرد تغيير إداري، بل هو انتقال من المجانية إلى الأداء، أي من منطق الحقوق إلى منطق السوق. إنه إلغاء عملي لحق دستوري في الصحة، وتحويله إلى خدمة مدفوعة الثمن حتى بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشة، التي كانت تعتمد على راميد كشبكة أمان اجتماعي أخيرة. اليوم، يجد هؤلاء أنفسهم مجبرين على دفع مساهمات مالية في وقت لم يعد فيه الدخل يكفي حتى لتأمين أساسيات الحياة. أليس في ذلك تكريس واضح لسياسة انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي ؟
وإذا كان هذا هو حال الصحة، فإن التعليم لم يسلم من المصير نفسه، مدارس الريادة التي قُدمت كحلٍّ لإصلاح المدرسة العمومية، تحولت إلى وسيلة جديدة لتسريع هروب التلاميذ نحو القطاع الخاص. كيف ذلك؟ ببساطة، لأن هذه المدارس اعتمدت على مقرر موحد للمتعثرين، ما رفع نسبة النجاح بين الفاشلين، لكنه في المقابل عرقل المتفوقين، وجرّدهم من فرص التميز. والنتيجة أن الأسر، حتى المتوسطة والفقيرة، بدأت تدفع أبناءها نحو التعليم الخصوصي، رغم التضحيات المالية، خوفًا على مستقبلهم الدراسي. أي إصلاح هذا الذي يساوي بين الجميع على قاعدة الأدنى، ويكافئ الفشل بدل أن يحفز التفوق؟
هكذا، يجد المواطن المغربي نفسه أمام واقع صارخ لا صحة عمومية تحميه، ولا تعليم عمومي يفتح أمام أبنائه آفاق المستقبل. والرسالة واضحة: الدولة تتراجع خطوة خطوة عن التزاماتها الدستورية، وتترك المواطن وحيدًا في مواجهة منطق السوق. إن ما يحدث ليس إصلاحًا، بل هو تفكيك بطيء للقطاعين الأكثر ارتباطًا بالحياة اليومية: الصحة والتعليم.
الخلاصة أن المسؤولية السياسية والأخلاقية تقع كاملة على عاتق الدولة، التي اختارت أن تعالج أعطاب منظومتين حيويتين بمقاربة ترقيعية لم تؤد إلا إلى المزيد من الإقصاء. ومن ثم فإن الاحتجاجات لم تعد مجرد تعبير عن مطالب فئوية، بل صارت صرخة وجودية ضد مسار خطير ينذر بتحويل الحقوق الأساسية إلى سلع معروضة للبيع. وإذا لم تتحمل الدولة مسؤوليتها، فإن ثمن هذا الانسحاب لن يُدفع فقط من جيوب المواطنين، بل من استقرار المجتمع بأسره.