الألباب المغربية/ ميمونة الحاج داهي
لماذا تتخلى الدولة عن أهم أوجه سيادتها.. كثر الحديث هذه الأيام عن الواقع المأساوي للصحة بالمغرب.. وأحالني ذلك إلى ذكريات تجربة شخصية حيث أنجبت أبنائي على أسِرَّة مستشفى مولاي الحسن بن المهدي بالعيون..عانيت من سوء الخدمة والإكتظاظ وغياب طبيبي التوليد والأطفال وتفشي الرشوة وانتشار الصراصير والقطط… خاصة في ولادتي الأولى التي كدت أفقد فيها حياتي.. ورغم ذلك عدت مرتين مكرهة إلى نفس المستشفى وكان بإمكاني اختيار مصحة خاصة لكنني أدرك أن وضع المصحات حينها بالمدينة لا يختلف كثيرا.. وعشت المأساة بشكل مباشر فزوجة أخي كانت ضحية من ضحايا منظومة الصحة حيث توفيت أثناء إنجابها طفلتها هذه الأخيرة نجت بأعجوبة فوضع حديثي الولادة أسوأ بكثير من وضع الأمهات..
هذا واقع ليس مقتصرا على مستشفى مدينة العيون بل ممتد بمناطق المغرب على حد سواء.. لذلك وجهة نظري في موضوع الصحة نابعة من لحظات كنت فيها في أسوأ منازل هشاشتي الإنسانية.
الصحة في المغرب ليست مجرد قطاع اجتماعي يُدرج إلى جانب التعليم أو التشغيل، بل هي البوصلة التي تقيس مدى قوة الدولة وقدرتها على حماية نفسها من الانهيارات. حين يضطر مريض أن ينتظر أشهرا لموعد بسيط، أو حين تبحث أم عن سرير آمن لتلد فيه.. فإن المسألة لا تختصر في ضعف الإمكانيات أو قلة الأطباء.. بل تكشف عن عمق السؤال: هل جسد المواطن يُعتبر في عين الدولة رأسمالا وطنيا لا يقل عن الطاقات والمعادن.. أم أنه مجرد تفصيل ثانوي في حسابات الميزانية ؟
اللافت أن المغرب يراكم إنجازات كبرى في البنيات التحتية في الطاقات المتجددة في مشاريع تكنولوجية يقدمها للعالم كعلامات على صعوده.. لكن كل هذه الصورة تنهار أمام مشهد قاعة مستشفى مكتظة أو قرية بلا طبيب.
الجائحة الأخيرة عرت هذا التناقض: اقتصاد يمكن أن يتجمد بالكامل بسبب هشاشة منظومة صحية لم تُبنَ على أساس أنها ركيزة سيادية. فالدولة التي تفتقر إلى حماية جسد مواطنيها، لا تستطيع أن تحمي نفسها من الارتباك السياسي والاجتماعي.
الصحة ليست أرقاما عن الأسرة أو نسب التغطية، بل هي شبكة متكاملة تحدد إنتاجية العامل أمان الأسرة وثقة المواطن في العقد الاجتماعي.. حين يشعر المغربي في الأطلس أو الصحراء أن حظه في العلاج أقل من نظيره في الدارالبيضاء.. فذلك لا يعكس فقط تفاوتا تقنيا، بل يزرع شعورا بأن الدولة غير عادلة في توزيع قيم الحياة. ومن هنا يتضح أن الصحة ليست شأنا طبيا فحسب، بل قضية سياسية ومجالية تمس جوهر الانتماء الوطني.
التحول المطلوب لا يقتصر على بناء مستشفيات إضافية أو رفع أجور الأطباء، بل على إعادة تعريف الصحة باعتبارها ثروة وطنية تعادل السيادة الطاقية والسيادة الغذائية. الاستثمار في الطب الوقائي، في البحث العلمي الطبي، في تكوين الكفاءات، ليس كماليات بل هو رهان وجودي. فكل درهم يُصرف هنا يجنب البلاد خسائر أكبر على مستوى الاقتصاد والاستقرار.
إصلاح الصحة في المغرب يجب أن يقطع مع منطق “تدبير الخصاص” وأن ينتقل إلى منطق “بناء الرأسمال الصحي”.. لأن الصحة ليست معركة ضد المرض فقط، بل هي معركة من أجل تثبيت معنى الدولة نفسها. عندها فقط يمكن أن نقول إن المغرب أنجز طفرة نوعية حقيقية، لا في بناياته ولا في صورته الخارجية، بل في حماية أجساد مواطنيه التي هي في النهاية أساس كل مشروع وطني.