عزيز لعويسي
مسألة الأرشيف، لم تكن تشكل “أولوية” في المغرب المستقل، ولم تكن “حاجة ملحة”، في سياقات بناء أسس ومرتكزات الدولة المغربية الحديثة، بل وحتى بعد تثبيت أقدام الدولة، فيما يتعلق بإرساء البنيات اللازمة الإدارية والسياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية، ظل “الأرشيف” طيلة عقـود من الزمن، خارج دائرة الاهتمام الرسمي، وبمعزل عن نطاق الوعي المجتمعي، فغاب “القانون” الذي من شأنه ضبط عقارب الممارسة الأرشيفية في أوساط الإدارات والمؤسسات العمومية، وغابت معه المؤسسة العمومية، القادرة على إعادة الاعتبار للأرشيف باعتباره مرآة عاكسة لتراث الأمة، وممارسة معبرة عما تتطلع إليـه الدولة من حداثة، ليتشكل وبحكم الواقع السياسي والإداري، مفهوما للأرشيف، مقرونا بتلك الوثائق الإدارية الفاقدة للحياة، والتي لا تصلح إلا للحرق أو السرقة أو الإتلاف، أو بالحكم عليها – في أحسن الحالات -، بالموت البطيء في أقبية الإدارات، ولم تتوقف أزمة الأرشيف عند هذا الحـد، بل امتدت نحو “أماكن الحفظ”، التي تحولت إلى أداة في يد الرؤساء، تسخـر لمعاقبة المرؤوسين “المغضوب عليهم”…
وبين “غياب الاهتمام الرسمي” و”الفراغ القانوني والمؤسساتي”، هناك حقيقة مؤلمة بلغة التاريخ، ومقلقة بخطاب الذاكرة، ومؤسفة بمقياس التراث والهوية، مرتبطة بضياع كم هائل من أرشيفات الإدارات والمؤسسات العمومية، سواء التي أنتجت في زمن الحماية أو قبلها، أو تلك التي رأت النور في مغرب الحرية والاستقلال، بكل ما لذلك، من تداعيات متعددة الزوايا على الذاكرة الجماعية، التي باتت “ذاكرة مثقوبة”، لا أحد بإمكانه تقدير حجم الضرر الذي لحق بها منذ الاستقلال على الأقل، نتيجة “الجرائم الصامتة” التي طالت “التراث الأرشيفي الوطني” على امتداد عقود من الزمن؛
واليوم وبعد أن اهتدت سفينة الدولة بشكل متأخر إلى جزيرة الأرشيف، بإصدارها لأول قانون منظم للأرشيف العمومي (القانون 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007))، وإحداثها لمؤسسة عمومية ساهرة على تنفيذ مقتضياته (مؤسسة أرشيف المغرب)، في السياقات المرتبطة بتجربة الإنصاف والمصالحة، يحق لنا أن نتساءل: ماذا تحقق في واقع الممارسة الأرشيفية على صعيد الإدارات والمؤسسات العمومية، بعد مرور حوال 16 سنة من إصدار القانون المنظم للأرشيف؟ إلى أي حد تمكنت المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، من تخليص “تدبير الأرشيف العامة” من جائحة “الحكرة”؟ إلى أي مدى تستحضر الإدارات والمؤسسات العمومية “مقتضيات قانون الأرشيف ومرسومه التطبيقي”، في تدبير ما تحتضنه وتدبـره من أرشيفات؟ وأية وسائل مادية ولوجستية وموارد بشرية، متاحة أمام “أرشيف المغرب”، لفرض احترام القانون الأرشيفي في أوساط الإدارات والمؤسسات العمومية، والتصدي بحزم، لمختلف المخالفات الماسة بالأرشيف؟، وأي وعي بالأرشيف وبقيمته التاريخية والتراثية والعلمية والتربوية، في الوسط المدرسي، اعتبارا للدور المحوري للمدرسة في تربية الناشئة على القيم الوطنية، وما يمكن أن تضطلع به من تدخلات على مستوى التوعية بقيمة الأرشيف وأهمية المحافظة عليه، كتراث وطني؟ وبين هذا وذاك، نتساءل: إلى أي حد تحضر “المسألة الأرشيفية” في صلب التوجهات الاستراتيجية للدولة؟ وإلى أي مدى يحظى “الملف الأرشيفي”، بما يستحق من عناية واعتبار وتقدير، في البرامج الحكومية والسياسات العمومية، باعتباره “تراث الأمة” و”ذاكرتها الجمعية”؟
أسئلة وانشغالات من ضمن أخرى، يصعب تقديم أجوبة جاهزة عنها، مهما برعنا في تطويع حديد الأرشيف، أو أسهبنا في النبش في تضاريسه الوعرة، في غياب “المعلومة” المتوفرة لدى المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، استحضارا لما راكمته من تجارب وخبرات، وما صادفته رغم عمرها القصير، من خبايا وخفايا ومعوقات، وإذا لم نكن مبالغين، نرى أن المؤسسة ذاتها، قد تشاطرنا هذه الأسئلة والانشغالات أو بعضها على الأقل، لاعتبارات متعددة المستويات، يرتبط بعضها بحداثة التجربة الأرشيفية بالمغرب، وبعضها الآخر بتواضع ثقافة الأرشيف في الأوساط “الرسمية” و”المجتمعية”، وبعضها الثالث يرتبط بمحدودية الوسائل والإمكانات المتاحة أمامها، مما يقلص من فرص تحركها، في إطار ما أناطه بها القانون من مهام ومسؤوليات؛
لكن وحتى في حالة إذا ما كانت طريق الأجوبة ميسرة ومعبدة، فلن يغير ذلك شيئا مما أصاب الذاكرة الوطنية، من إصابات متفاوتة الخطورة طيلة عقود من الزمن، استحضارا لحجم وقيمة الأرشيفات والمعدات والمقتنيات، التي ضاعت في “زمن السيبة الأرشيفية” إذا ما صح الوصف، لنكون بحكم الواقع، وجها لوجه أمام “ذاكرة مثقوبة” ضاعت معها حلقات مهمة من تاريخ الأمة وتراثها وهويتها المشتركة، وهذه الذاكرة تحتاج اليوم، إلى ما يشبه “جبهة إنقاذ” للتصدي للعبث الذي لازال يطالها حتى في زمن القانون الأرشيفي، ووضع خطة عمل، قادرة على جمع شتات الأرشيفات التي لازالت تقاوم من أجل الحياة داخل أروقة الإدارات في غياب أدنى شروط العناية والحفظ والتقدير والاعتبار، ومنحها فرصا جديدة للحياة “جمعا” و”معالجة” و”حفظا” و”تثمينا”؛
ومعركة سد فراغات الذاكرة المثقوبة وصون بيضتها من أيادي العبث والإهمال، لن تكون معركة “أرشيف المغرب” وحدها، مهما أوتيت من الأدوات والوسائل والإمكانات، بل هي معركة دولة، لابد أن تتحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية أمام التراث الأرشيفي الوطني باعتباره مرآة عاكسة لتراث الأمة وذاكرتها الجمعية، ومسؤولية حكومات متعاقبة، آخر ما تفكر فيه هو “الأرشيف”، ومسؤولية برلمان، لايستقيم عمله، إلا بالدفاع عن مصالح الأمة وقضاياها المصيرية عبر بوابة التشريع، وبين هذا وذاك، هي مسؤولية أفراد وجماعات باعتبار الأرشيف ملكا جماعيا، يسائل المجتمع بكل فئاته وانتماءاته؛
وإذا كانت المعركة تبدو مكلفة ماديا، فما هو ثابت، أن كلفة المساس بالأرشيف أو انتهاك حرمات تراث الأمة، أو التطاول على ذاكرتها الجماعية أو العبث بهويتها المشتركة، لن تكون إلا أغلى وأقسى على البلاد والعباد، لكن بالمقابل، نرى حسب تقديرنا، أن “الكلفة المادية” لايمكن البتة، أن تكون مبررا بالنسبة للبعض للتقاعس عن “جهاد الأرشيف”، فلابد من الاقرار أن بعض التحركات والتدخلات والعمليات، تحتاج فقط إلى “الإرادة وروح المواطنة” و”الوعي بقيمة التراث الأرشيفي الوطني”، وإلى “أصحاب قرار متملكين لثقافة الأرشيف ومؤمنين بها”، وإذا ما حضرت هذه القيم وغيرها، نستطيع تعبئة فجوات الذاكرة المثقوبة وإعادة الاعتبار لها، من خلال حسن العناية بما تنتجه الإدارات والمؤسسات العمومية من أرشيفات، سواء في التعليم و الجامعة و الصحة، أو الرياضة و الموسيقى والمسرح و السينما والإعلام، أو القضاء و الأوقاف و التوثيق، أو بريد المغرب و الأمن الوطني و الجمارك والوقاية المدنية، وغير ذلك من القطاعات؛
ونأمل في خاتمة المقال، أن تحدث “الاستراتيجية الوطنية للأرشيف” المرتقب الإعلان عنها متم السنة الجارية، إقلاعا حقيقيا على مستوى الممارسة الأرشيفية في أوساط الإدارات والمؤسسات العمومية، وأن تمنح مؤسسة “أرشيف المغرب” ما يلزم من الوسائل القانونية والتنظيمية والمادية واللوجستية والبشرية، ما يساعدها على فرض التطبيق السليم للقانون المنظم للأرشيف ومرسومه التطبيقي، وتنفيذ وتنزيل ما ستحمله خارطة الطريق الجديدة، من أهداف ومقاصد؛
ونختم بتوجيه رسالة مفتوحة إلى صانعي القرار بمختلف الإدارات والمؤسسات العمومية، ندعوهم من خلالها إلى تحمل مسؤولياتهم المواطنة أمام “المسألة الأرشيفية”، وتقدير أهمية التدبير الأمثل للأرشيف، في خدمة التاريخ والذاكرة والتراث والهوية، وفي تنظيم المعلومة وحفظ حقوق الأفراد والجماعات، وقبل هذا وذاك، في “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، ومواكبة ما تتطلع إليه الدولة من إصلاح وتحديث، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله وأيده.