الألباب المغربية/ نادية عسوي
رائحة الخبز في مطبخنا تروي لنا دائمًا أن الحياة ممكنة، وأن البقاء ليس في الكلمة بل في كسرة ساخنة تخرج من الفرن فتملأ البيت دفئًا، وتوقظ فينا حنينًا قديمًا لا ينطفئ. ما من رائحة في الدنيا أزكى من رائحة الخبز، لأنها تختصر تاريخ الشعوب وذاكرة الأمهات وقلق الفقراء وصوت الثورات.
منذ القدم، كانت المرأة والأم على وجه الخصوص هي الراعية الأولى للخبز. بيديها تعجن الطحين بالماء، وتضع عليه شيئًا من الملح وشيئًا من قلبها، ثم تتركه يختمر مثلما تترك أبناءها يكبرون في حضنها. كم من بيت امتلأ بالطمأنينة حين تصاعدت رائحة الخبز من الفرن، وكم من جائع وجد في رغيف الأم شبعًا للجسد والروح معًا. ليس غريبًا أن يقول محمود درويش: “أحن إلى خبز أمي”، فالرغيف الذي يخرج من يد الأم لا يكون مجرد طعام، بل يصبح قصيدة أبدية عن الحنان، وصلاة صامتة تحرس الأبناء في غربتهم.
في الروايات أيضًا، لم يكن الخبز يومًا غائبًا، زافييه دومونتبان كتب عن “بائعة الخبز” التي جعلت من الرغيف صرخة ضد الظلم، ومحمد شكري ترك شهادته الصادمة في “الخبز الحافي”، حيث تحوّل الرغيف اليابس إلى رمز للجوع والتمرّد. وهكذا، تنوعت الصور، لكن ظل الخبز دومًا مرادفًا للكرامة والذاكرة.
وفي التاريخ، كان الرغيف شرارة لثورات هزّت العالم. في فرنسا عام 1789، خرجت النساء في الشوارع وهن يهتفن من أجل الخبز، وكانت تلك الصرخة أقوى من جيوش، لأنها خرجت من بطون جائعة وقلوب مثقلة بالحرمان. وفي روسيا عام 1917، حملت نساء بتروغراد شعار “خبز وسلام”، فكان الخبز كلمة السر التي جمعت بين مطلب البقاء ومطلب الحرية. أما في أيرلندا، فقد تحولت المجاعة الناتجة عن فقدان البطاطس إلى مأساة كبرى حين استمرت بريطانيا في تصدير الحبوب وهي ترى الملايين يموتون جوعًا.
ولم يكن المغرب وتونس بعيدين عن هذه الذاكرة الثائرة. ففي المغرب اندلعت انتفاضة الدار البيضاء سنة 1981 والتي سُمّيت بـ”انتفاضة كوميرة”، بعدما خرج الناس احتجاجًا على ارتفاع أسعار المواد الأساسية وعلى رأسها الخبز. وفي تونس تكررت انتفاضات الخبز، أشهرها سنة 1984، عندما خرجت الجماهير إلى الشوارع رفضًا لغلاء الخبز والقمح، فاضطر النظام حينها إلى التراجع تحت ضغط الناس. الخبز هنا كان صوت الشعب، وكان أيضًا محكًّا لشرعية السلطة.
هكذا يتضح أن الرغيف ليس تفصيلًا عابرًا، بل هو ميزان عدالة يحدد استقرار الشعوب أو اهتزازها. وحين نفكر في رمزيته، لا يمكن أن نغفل أن المرأة كانت دائمًا في الصف الأول: في المطبخ حيث تصنع الحياة، وفي الشارع حيث تهتف للكرامة.
ورغم كل هذه الرمزية الثقيلة، يبقى الخبز في جوهره نعمة عظيمة تستحق الحمد. إنه زاد الفقراء ورفيق الأغنياء، وهو ما جمع الناس على مائدة واحدة منذ الأزل. لذلك، حين نرى الرغيف أمامنا، علينا أن نستشعر فضل الله، وأن نحمده على رزقٍ لم يحظَ به كثيرون في أزمنة القحط والمجاعات.
الخبز حكاية بلا نهاية، لأنه ليس مجرد غذاء، بل هو ذاكرة ووجع وثورة وحنين. هو الرائحة التي تعلن أن الحياة مستمرة، والرغيف الذي يذكّرنا بأننا ما زلنا هنا، نأكل ونحلم ونصمد. هو قصة الإنسان منذ فجر التاريخ، ونعمة من الله نردد معها دائمًا: الحمد لله على نعمة الخبز.
وربما يكفي أن نعود إلى تلك الرائحة الأولى، رائحة الخبز في مطبخنا، لندرك أن هذه الحكاية لم ولن تنتهي.