الألباب المغربية/ محمد عبيد
خلقت التصريحات الخطيرة التي أدلى بها البرلماني أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية عند مناقشة مشروع قانون المالية 2026 جدلا واسعا حين وجه اتهاما لشركات مطاحن الدقيق بـكونها تقوم بطحن الأوراق مع القمح لتقديمها كدقيق مدعم يستهلكه المغاربة الفقراء..
التصريحات أحدثت عاصفة من الجدل في الساحة السياسية والإعلامية، بعدما جرى تفسير كلامه على أنه اتهام مباشر بتلاعب خطير في مواد غذائية أساسية. حيث اعتبر كلام البرلماني بأنه كان على علم بجرائم خطيرة تمس الأمن الغذائي للبلد ولم يقم بالتبليغ عنها عند الجهات المختصة.. سيما وأنه بهذا الكلام يعترف بعظمة لسانه وداخل مؤسسة دستورية.
تصريحات برأي العموم لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، لأنها مست في الصميم، أمن المغاربة الغذائي، وأدخلت الشك إلى بيوت الأسر البسيطة التي لا تملك سوى ثقتها في رغيفها اليومي.
إن ما قاله التويزي لم يكن مجرد “زلة لسان” عابرة، بل تصريح خطير صدر عن نائب برلماني من حزب يوجد في قلب الحكومة، لا من صفوف المعارضة.
ساعات قليلة بعد أن غزت تصريحاته الخاصة ب”طحن الورق” مع الدقيق المدعم شبكات التواصل العالمية، سارع أحمد التويزي رئيس فريق الجرار في مجلس النواب، إلى نشر توضيح على صفحته بالفايسبوك، مفاده أن المقصود من كلامه هو التلاعب بالفواتير وتزويرها للحصول على المال العام.
ولتأكيد هذا الطرح، أضاف البرلماني بأنه من الناحية الاقتصادية والمالية لا يمكن اللجوء إلى الورق ل”طحنه” مع الدقيق لأن ثمنه جد غالٍ وبالتالي فإن الأمر مستحيل..
لكن البرلماني المحترم تجاهل أن أطنان الورق المستعمل (عدة آلاف مرجوعات الجرائد يوميا… كرطون… التعبئة والتغليف… أوراق مستعملة وووو) تباع بثمن زهيد، مما يفند تفسيره الإقتصادي لكلامه.
التويزي حاول أن يقدم نفسه كأستاذ في البلاغة العربية، متهما الصحفيين بعدم فهم اللغة وأساليبها المجازية، وكأنه في قاعة محاضرة يلقي درسا في البيان والبديع أمام الطلبة، لا في قبة البرلمان حيث يفترض أن تناقش قضايا الناس بوضوح ومسؤولية.
لكن ما نسيه هو أن السياسة لا تبنى على الاستعارات ولا على الخيال، وأن الخطاب السياسي لا يحتمل التأويل البلاغي حين يتعلق الأمر بمعيش المواطنين.
في التوضيح، نجد كذلك أسطوانة “بعض الجهات” و”البحث عن البوز” و”تحريف الكلام عن سياقه”، مما يؤكد أن برلماني الجرار يعترف بخطورة تصريحاته، التي حاول إعطاءها تفسيرا لا تحتمله لغويا ولا سياسيا ولا أدبيا ولا أخلاقيا ولا حتى “سوقيا” (من السوق).
النائب كان يتكلم باللغة العربية التي لا يتقنها، ولكن في التوضيح قال إن المصطلح المستعمل هو من اللهجة المغربية لإعطاء التفسير الذي يوفر له ظروف التخفيف، مع العلم بأن هذا المصطلح “طحن” يحيل في نفس اللهجة على ما هو أخطر، وبالتالي فهو بتفسيره هذا يطلب ظروف التشديد! وفي الفقرة الأخيرة أستعمل عبارة “الأسر الفقيرة والمستحقة” لنتساءل: هل هناك أسر فقيرة غير مستحقة للإستفادة من الدعم؟!
الفيدرالية الوطنية للمطاحن ردت على الاتهامات التي وجهها أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، إلى مهنيي القطاع، حين اتهمهم بطحن الورق وتقديمه كدقيق مدعم للمواطنين، معتبرة بأن تصريحات التويزي عارية عن الصحة ولا تستند على أي دلائل، ومطالبة إياه بتقديم دلائل موثوقة لتمكين الجهات المختصة من مباشرة المساطر القانونية، ومشيرة إلى استعداد الفيدرالية لتكون طرفًا في هذا الملف.
إن التبرير الذي جاء به التويزي أضعف من التصريح نفسه، وأقرب إلى التهرب منه، لأن العبارة كانت قاطعة وواضحة ولا تحتاج لتفسير أو تأويل لغوي.
وهل المواطن الذي يُغلب على أمره يعرف لغة المجاز التي خاطبها به؟
السياسة ليست استعراضاً أمام الكاميرات، بل التزام ومسؤولية.
والنائب البرلماني، حين يتحدث، لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل مؤسسة دستورية وصوت أمة بأكملها.
فهل يعقل أن يُسمح لأي مسؤول، مهما علا شأنه، أن يطلق اتهامات من هذا الحجم دون دليل أو تحقيق؟
القانون المغربي واضح وصارم في مثل هذه الحالات، إذ تنص المادة 72 من القانون الجنائي على ما يلي:”يعاقب بغرامة من 20.000 إلى 200.000 درهم كل من قام بسوء نية بنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات غير صحيحة إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس”.
النيابة العامة دخلت على الخط وبشكل رسمي وتلقائي ذلك حين أمر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط بفتح تحقيق في الموضوع… خاصة وأن تصريحات التويزي مست الأمن الغذائي للمغاربة، وكونه ملف حساس يرتبط بصحة المواطنين وبالمال العام.
التنويري بعد استدعائه من قبل النيابة العامة خرج مرة أخرى بتصريح يقول فيه بأنه يرحب باستدعائه من قبل القضاء وبأنه يرغب في نقاش يمكن من الوقوف على من يتلاعب بفواتير الدعم التي تناهز 200 مليارا، وأين صرفت ومن يستفيد منها ؟ وبأن هناك تقارير رسمية تتحدث عن هذا التلاعب ؟
المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (أونسا) في المغرب في بيان له أشار إلى أن هناك 190 مطحنة مرخص لها وتخضع للمراقبة، إلا أنه أقر تسجيلها ل33 طنا من الدقيق الفاسد.
ويبقى هذا الملف وبعد دخول القضاء موضوعا ذي غاية من الأهمية لطمأنة الرأي العام مما يستهلكه من خبز سيما وأن التويزي عبر عن ارتياحه وترحيبه بأي تحقيق يهدف إلى إنارة الرأي العام…. ومؤكدا على أنه ليس لديه ما يخفيه، مبرزا أن القضية ليست قضية شخصية، بل هي قضية وطنية تهم صحة المواطن وجودة ما يستهلكه يوميا.