الألباب المغربية/ يونس المنصوري
في زاوية من زوايا هذا الوطن الموجوع، حيث الغبار يُخفي أكثر مما يُظهر، وحيث الصوت الوحيد الذي يصل بوضوح هو صوت البارود… هناك، تولد التبوريدة من رحم الكبرياء.
ليست رقصةً ولا فرجة… بل صلاة رجولية تُؤدى فوق صهوات الخيل، وطقسٌ قديم يُجسّد صلابة هذا الشعب وذاكرته المقاومة. حين يمتطي الفارس جواده، لا يحمل بندقية فقط، بل يحمل سيرة قبيلته، تاريخها، وشرفها.
يقول الباحث عبد الهادي التازي: “التبوريدة ليست فنًا قتاليًا فقط، بل هي مرآة للقيم النبيلة في الفروسية المغربية، مثل الانضباط، الصبر، والنخوة”.
ولعل النخوة في هذه الأرض، لم تجد وعاءً أصدق من ظهر الحصان.
منذ عهد المولى إسماعيل، كانت التبوريدة أكثر من استعراض عسكري… كانت إعلان ولاء، وشهادة كفاءة، وبلاغًا مفتوحًا من القبائل إلى السلطة: “نحن هنا، نحمل البارود، ونحمي العرض”. في مواسم السلاطين، كانت السربات تدخل كسفراء غير رسميين، تحمل على ظهر الخيل رسائل لم تكتبها الأقلام، بل كتبتها البندقيات في السماء.
فارس التبوريدة لا يُصفّق لنفسه… هو صامت، لأن البارود يتكلّم باسمه.
أحد الفرسان من قبائل زمور قال ذات يوم وهو ينظر إلى خيله كمن ينظر إلى مرآة الروح: “ماشي حنا كنركبو على الخيل… الخيل هي اللي كتركب بينا فالماضي ديال جدودنا”. كأن كل خطوة من الحصان، تمحو بعضًا من خيبات الحاضر.
في زمن الحماية الفرنسية، أدرك المستعمر خطورة هذا الطقس، فحاول تهميشه، لأنه كان يرى فيه شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية. وما بين الحصان والبارود، كانت هناك رسالة وطنية لم تُفكّ شيفرتها إلا في القرى والمواسم، حيث كان الفارس رمزًا للاستقلال الرمزي والنفسي.
والتبوريدة، كما يعرفها المهتمون بالتراث، كانت أيضاً مدرسة لغرس القيم: التنظيم، احترام الآخر، العمل الجماعي، ورفض الخضوع. كانت تعلم الأطفال معنى الفخر قبل أن يتعلموا الأبجدية.
في كل “طلقة”، وجعٌ موروث، فرحٌ مخنوق، وكرامة تصر على أن تكون. في كل حركة، رمزية ثقافية مقاومة لمحاولات التغريب والسطو على الهوية. اللباس الأبيض، السرج المطرز، والصرخة الجماعية التي تسبق البارود… ليست تفاصيل، بل شيفرة حضارية مغربية بامتياز.
فحين يطلق الفارس بندقيته في السماء، فهو لا يبحث عن صورة… بل يُعلن عن وجود، عن ذاكرة لا تُختزل، وعن هوية تأبى أن تذوب في سوق الاستهلاك السريع… التبوريدة… ليست فلكلوراً، بل وجدان شعب.