الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء كان منتظرا، استحضارا للاتفاق الثلاثي الشهير الذي وقعه المغرب إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020، والذي بموجبه، عادت العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب إلى سالف عهدها، بمباركة وتزكية أمريكية، لكن الذي لم يكن منتظرا رغم تأخر القطار الإسرائيلي، أن يكون الاعتراف قويا جدا، بل ومتقدما على كل الاعترافات الداعمة لمغربية الصحراء، بما فيها الاعتراف التاريخي الأمريكي “الترامبي”، الذي شكل منعطفا بارزا في سيرورة النزاع المفتعل حول قضية الصحراء المغربية، وما تلاه من مواقف داعمة للسيادة المغربية، ومنها الموقف الإسباني الذي أطلق العنان لعهد جديد من العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ومدريد، قوامه المسؤولية والمصداقية والاحترام وحسن الجوار والتعاون؛ق
وة وتقدم الموقف الإسرائيلي الذي عبر عنه الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في رسالته الموجهة إلى جلالة الملك محمد السادس، تكمن في الاعتراف الصريح الذي لايدع مجالا للشك أو اللبس بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية المغربية، دون الإشارة حتى إلى “مقترح الحكم الذاتي”، كما تكمن في “الطابع الإجرائي” لهذا الاعتراف التاريخي “غير المسبوق”، من خلال العمل على “تجسيد القرار في كافة أعمال ووثائق الحكومة الإسرئيلية ذات الصلة” و”إخبار الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر إسرائيل عضوا فيها” و”جميع البلدان التي تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية بهذا القرار”، فضلا عن “دراسة إمكانية فتح قنصلية لإسرائيل بمدينة الداخلة، تكريسا لقرار الدولة “؛
اعتراف قوي ومتقدم، جنته الدبلوماسية المغربية التي يقودها بصمت وحكمة وحزم وتبصر، جلالة الملك محمد السادس، بعد طول انتظار، أدخل العلاقات المغربية الإسرائيلية في حالة من البرودة والشك منذ الاتفاق الثلاثي، على الرغم من الجنوح الصامت نحو التعاون في عدد من القطاعات الحيوبة والاستراتيجية، وإذا كان هذا الاعتراف، يجد سنده القانوني والدبلوماسي في الاتفاق “الترامبي” الشهير، الذي كان بمثابة “رصاصة الرحمة” في صدر أعداء وخصوم الوحدة الترابية، فلايمكن البتة، فهم عمقه ودلالاته، ما لم يتم ربطه بالسياق الجيوسياسي الإقليمي والدولي، المرتبط بشكل خاص بتحديات الحرب الروسية الأوكرانية التي شكلت وتشكل إرهاصات أولية لنظام عالمي جديد، وعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بعد سنوات عجاف من القطيعة، وعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، والمواقف العدائية لإسرائيل التي طالما عبر عنها النظام الكابراني منذ الإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، فضلا عن محاولة طهران الافتكاك من العزلة الدولية، بالرهان على تطبيع وتمتين العلاقات الدبلوماسية مع المحيط العربي، عبر المملكة العربية السعودية والجزائر الكابرانية، ولم يكن المغرب بمعزل عن هذا التفتح الدبلوماسي الإيراني، بعد تصريح سابق لوزير الخارجية الإيراني، عبر من خلاله عن رغبة طهران في استعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب ومصر، دون إغفال ما لهذه التحركات الإيرانية من آثار على أمن وسلامة إسرائيل…
بالمقابل، وفي ظل الصمت الإسرائيلي فيما يتعلق بأمر الاعتراف بمغربية الصحراء، والذي شكل موضوع سؤال وترقب بالنسبة للدبلوماسية المغربية والمغاربة قاطبة، راهن المغرب منذ الاعتراف الأمريكي الشهير، على تقوية جبهة الدول الداعمة لمغربية الصحراء والمزكية لمقترح الحكم الذاتي، كان من ثمارها البارزة، كسب مواقف دول أوربية كثيرة من قبيل ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وصربيا والبرتغال وبريطانيا، وانتزاع موقف إسباني غير مسبوق، أعطى زخما للعلاقات الثنائية بين الرباط ومدريد، موازاة مع ضمان تأييد معظم الدول العربية، واقتحام خلوة الكثير من قلاع الدول الإفريقية التي ظلت طيلة سنوات داعمة لأطروحة الوهم ومؤيدة لها، بما في ذلك بعض القلاع في أمريكا الجنوبية، التي شكلت ميدانا تاريخيا تتدحرج فيه كرة الانفصال بطلاقة؛
لم يراهن المغرب فقط على توسيع دائرة الاعترافات، وتعبئة المنتظم الدولي حول مقترح الحكم الذاتي، بل راهن أيضا على المضي قدما في مسيرة البناء والنماء والازدهار، وفق رؤية ملكية استراتيجية، تروم دعم القدرات الذاتية والرفع من منسوب التنمية الاقتصادية والبشرية، والانخراط في مشاريع اقتصادية وتنموية واستراتيجية، عاكسة لمغرب جديد يجنح بصمت، نحو تملك شروط ومقومات “القوة الإقليمية الصاعدة”؛
ونشير في هذا الإطار إلى ما تحقق طيلة العقدين الأخيرين من مشاريع تنموية كبرى، طالت البنيات الطرقية والسككية والرياضية والموانئ والمطارات والجامعات والتكوين المهني والمستشفيات، ومن استثمارات ضخمة همت بالأساس قطاع السيارات والطائرات والطاقات المتجددة وغيرها، وقد كانت الصحراء المغربية في صلب ما تشهده المملكة من نهضة تنموية، عبر نموذج تنموي للأقاليم الجنوبية، كان من ثماره، وضع الصحراء المغربية على سكة الإقلاع التنموي الشامل، وتأهيلها المستدام، لتكون وجهة استثمارية واقتصادية عالمية رابطة بين إفريقيا وبقية العالم، ومدعمة للصلات الاقتصادية والثقافية والروحية بين المملكة وعمقها الإفريقي؛
زخم دبلوماسي داخلي، وازته دينامية خارجية بألوان التعاون والتنمية والمصالح المتبادلة، عكسها انخراط المملكة في صلب جملة من المشاريع الاستراتيجية العملاقة، المدعمة لقضايا التعاون والأمن والاستقرار والوحدة والسلام، في مقدمتها مشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب أوربا، الذي سيقوي اللحمة الإفريقية ويضع إفريقيا على سكة النهوض والنماء، ومشروع الربط الكهربائي بين المغرب وبريطانيا، ومشروع الربط القار بين أوربا وإفريقيا عبر إسبانيا والمغرب، والرهان على مشاريع مشتركة للطاقات النظيفة وفي مقدمتها “الهيدروجين الأخضر”، وعلى قيادة قافلة إفريقيا الأطلسية نحو النماء والرخاء والازدهار…
زخم تنموي داخلي وخارجي، ظلت قضية الصحراء قاعدته الأساس وخيطه الناظم، وهنا نشير إلى الخطاب الملكي السامي الموجه إلى الأمة بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، الذي وجه من خلاله جلالة الملك محمد السادس رسالة مفتوحة للجميع خاصة إلى الدول التي تتبنى مواقف مشبوهة بخصوص مغربية الصحراء، أكد عبرها أن ” ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”، وهذا الموقف الملكي الحازم، كان من تداعيته، تغيير الكثير من الدول لمواقفها، وإحراج دول أخرى، ثبت بالملموس، نواياها “السيئة” بخصوص مغربية الصحراء، ومنها فرنسا التي لازالت مصرة على العناد والعجرفة والكبرياء، وإسرائيل التي وإن تأخر قطارها عن الموعد، فقد كانت في الموعد، وهي تعبر عن موقف تاريخي إجرائي، الكثير لم يكن يتوقع قوته وتقدمه؛
الموقف الإسرائيلي له قوته ووزنه الاقتصادي والأمني والاستراتيجي، استحضارا للوزن الدولي لإسرائيل، وحجم الدول والمؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية الداعمة لها، واعتبارا لثقل اليهود في الاقتصاد العالمي، فضلا عما باتت عليه، من تقدم اقتصادي وعلمي وعسكري وأمني لافت للنظر، يجعل منها لاعبا مؤثرا في الشرق الأسط خصوصا وفي العالم بشكل عام، واعتراف وازن من هذا القبيل، لـن يكون إلا انتصارا كاسحا للدبلوماسية المغربية، ونجاحا لليهود من أصل مغربي سواء داخل إسرائيل أو خارجها، وقيمة مضافة، من شأنها الدفع في تقوية الصلات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، والارتقاء بها إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية، المقوية للقدرات الثنائية، والدافعة نحو تمكين المملكة المغربية، من شروط التقدم وأسباب النهوض والإشعاع؛
ما هو ثابت ومؤكد، أن الاعتراف الإسرائيلي، سيفتح شهية باقي الدول التي لازالت تتموقع في المنطقة الرمادية فيما يتعلق بملف الوحدة الترابية، أو تساند أطروحة الانفصال قلبا وقالبا، ويمنح المغرب المزيد من الثقة، لحسم ملف النزاع المفتعل حول الصحراء، بالمضي قدما في اتجاه طرد جمهورية الوهم والسراب من الاتحاد الإفريقي، والدفع في اتجاه تعبئة المنتظم الدولي، لإعلانها جماعة إرهابية مهددة للأمن والسلم الدوليين، ومعرقلة لطموح إفريقيا في الوحدة ولم الشمل والأمن والتعاون والرخاء والازدهار؛
إسرائيل بموقفها الشجاع، ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد، إذ خرجت من موقف الغموض والإبهام والفرجة فيما يتعلق بقضية الوحدة الترابية للمملكة، وعبرت عن مصداقيتها ومدى التزامها بفحوى الاتفاق الثلاثي، وأبانت عن حسن نيتها في الانخراط في علاقات استراتيجية مسؤولة مع المغرب، تشكل قضية الصحراء المغربية قاعدتها المتينة، وانتصرت لليهود من أصل مغربي عبر العالم، وعبدت الطريق للحضور الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي في القارة الإفريقية، وضربت بعمق محور طهران دمشق والجزائر، الذي يتقاسم عداء وكراهية إسرائيل، وأجهزت على أية محاولة إيرانية لاسترجاع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، وعزلت الجزائر المحتضنة والداعمة لعصابة تندوف بتأييد إيراني؛
وقبل هذا وذاك، أعطت نفسا قويا للدبلوماسية المغربية في معركة الدفاع عن وحدة الأرض وسلامة التراب، ومنحت الرباط ما يكفي من الثقة والإرادة، في أفق الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل، فضلا عما يمكن أن تجنيه المملكة، من مكاسب اقتصادية وتنموية وأمنية واستراتيجية، خادمة للقوة الإقليمية المغربية وداعمة لها؛
قرار إسرائيلي فاق التوقعات وتجاوز التكهنات، أتى في ظل ما تعرفه الدبلوماسية الكابرانية من هزائم وخيبات، في ظل الإصرار على احتضان بيضة البوليساريو، وفي سياق تحركات دبلوماسية كابرانية تبونية، يحركها عداء سرمدي للمغرب ووحدته الترابية، لم يحصد منها نظام الشر، إلا البؤس والانبطاح والخضوع و”لحيس الكابة” وهدر الأموال والخيرات، من أجل سواد مرتزقة إرهابية، خادمة للعداء المروكي على الدوام، تقود الجزائر وشعبها إلى حافة الإفلاس؛
في خاتمة المقال، لايمكن إلا أن نكون داعمين للدبلوماسية المغربية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس بصمت وحكمة وتبصر وسداد، مثمنين ما تحقق ويتحقق من منجزات تنموية ومكاسب دبلوماسية، داعمة للوحدة الترابية ومقوية للحمة الوطنية، مدركين أن المصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية فوق كل اعتبار، في عالم متغير، لايؤمن إلا بلغة الوحدة والتكتل وتقاسم المصالح والمنافع، أما خطاب “النوستالجيا” و”العروبة” و”القومية”، فلم يعد يجدي في ظل نظام عالمي، البارع فيه، من يجيد التموقع ويحسن الاختيار ويتملك قدرة الدفاع عن المصالح الذاتية، ومن لازال مصرا على عزف وثر الأمجاد أو تبني كلام العواطف المنافقة، نذكره أن بجاورنا دولة عربية إسلامية ترفع شعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، دون أن تقدم شيئا لفلسطين لاهي ظالمة ولا هي مظلومة، وفي ذات الآن، تصر بحمق وحقد وجبن وحقارة، على تقسيم وتشتيت شمل دولة عربية إسلامية جارة، وتهديد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بدون خجل أو حيـاء، ونذكره ثانيا، بحجم المعاناة والمحن التي تحملها المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، بسبب أنظمة عربية ومنها نظام الشر بالجزائر، توحدت لزعزعة أمن واستقرار المغرب وتهديد وحدته الترابية؛
وفي جميع الحالات فالمغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، أما قضية فلسطين، فلن تحل بخطاب الأنانية والنفاق والبطولة المزيفة، تحل بدعم الشعب الفلسطيني على البقاء والصمود، وحماية الطابع العربي والإسلامي والإنساني للقدس كمدينة للتعايش والمحبة والسلام، وبطرح أدوات الكراهية المبالغ فيها لإسرائيل التي شئنا أم أبيننا، باتت دولة بحكم الواقع، تتملك كل أسباب القوة والتقدم، مقارنة مع جيرانها العرب، وبات من اللازم، النظر إليها بمنظور المنفعة ومنطق المصالح المتبادلة، والإيمان القطعي، أن الوسائل والأدوات الدبلوماسية، وحدها دون غيرها، القادرة على إيجاد حل لقضية طال أمدها، حولتها الأنانية، إلى قضية للاسترزاق وجني المكاسب ما ظهر منها وما بطن، على أمل أن تدخل الدبلوماسية المغربية على خط القضية الفلسطينية، وتلعب دور الوسيط الموثوق به، لتقريب الرؤى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بشكل يدفع في اتجاه الجنوح نحو “حل الدولتين”، أما خطاب “العنتريات”، فهو سبب محنة فلسطين ومعاناة أهلها… وفي المجمل، هنيئا للدبلوماسية المغربية بهذا “الفتح الدبلوماسي المبين”، والقادم خيرإن شاء الله تعالى، وبئس للحاقدين والمتآمرين والعابثين والبائسين…