عزيز لعويسي
الاعتراف الإسرائيلي التاريخي غير المسبوق بمغربية الصحراء، وصفناه في مقال سابق بالفتح الدبلوماسي المبين، لما يرتقب أن تترتب عنه، من آثار اقتصادية وتنموية وثقافية واستراتيجية، ومن دعم لقضية الوحدة الترابية في المحافل الدولية، و”تدعيم للأسانيد القانونية الحقة والحقوق التاريخية الراسخة للمغرب في أقاليمه الصحراوية”، دون إغفال ما لهذا الاعتراف الوازن، من توثيق لصلاة اليهود المغاربة عبر العالم، بوطن الآباء والأجداد، وتثمين للهوية المغربية التي يعد المكون العبري إحدى روافدها…
مؤسسة أرشيف المغرب الحاضنة للتراث الأرشيفي الوطني، وفي إطار ما أناطه بها القانون المنظم للأرشيف من التزامات مرتبطة في بعدها الشمولي، بصون التراث الأرشيفي الوطني، كانت سباقة لقطف الثمار الأولى لهذا الاعتراف غير المسبوق، بتوقيعها وأرشيف دولة إسرائيل، على ”مذكرة تفاهيم” بالرباط بتاريخ 26 يوليوز 2023؛
وتهدف هذه المذكرة التي وقعها مدير المؤسسة (أرشيف المغرب)، الدكتور جامع بيضا، ومديرة أرشيف دولة إسرائيل، روث أفراموفيتز، إلى مد جسر التعاون وتبادل الخبرات والتجارب في مجال تدبير الأرشيف، وبالنسبة لأرشيف المغرب بشكل خاص، ستكون فرصة لسد الكثير من الثغرات التي تعتري التراث الأرشيفي الوطني، في أبعاده المتعلقة بأرشيفات يهود المغرب المنتشرة في الكثير من دول العالم، فضلا عن إمكانية استفادة المؤسسة من خبرة أرشيف دولة إسرائيل، في مجال التدبير المعلوماتي للأرشيف، وبشكل خاص في الشق المتعلق بتوظيف الذكاء الاصطناعي في التدبير الأمثل للأرشيف، استحضارا لما وصل إليه الجانب الإسرائيلي، من تقدم هائل في مجال البحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة؛
أرشيف المغرب ومنذ تأسيسها، وعلى الرغم من انسداد الأفق الدبلوماسي، ظلت تضع الذاكرة اليهودية المغربية في صلب اهتماماتها، ونجحت في هذا الإطار، في وضع اليد على عدد من الأرشيفات العاكسة للتاريخ اليهودي المغربي، وعلى أرشيفات أخرى، تبرعت بها شخصيات يهودية أو ورثتهم، كما هو الحال بالنسبة لشخصية حاييم الزعفراني، أحد أعلام الفكر اليهودي المغربي، الذي ترك عدة كتب وبحوث أكاديمية، موثقة لتاريخ وذاكرة اليهودية بالمغرب، واليوم، وفي ظل ما باتت تعيشه العلاقات المغربية الإسرائيلية من انفراج سياسي ودبلوماسي غير مسبوق، نرى حسب تقديرنا، أن كل الظروف ميسرة أمام أرشيف المغرب ومديرها الدكتور جامع بيضا، ليس فقط لطرق باب الذاكرة اليهودية المغربية، بل ولجعل الأرشيف مواكبا للتوجهات الاستراتيجية للدولة وداعما لها، وواجهة تراثية، دافعة في اتجاه مد جسور التعارف والتعاون والتلاقح الثقافي والسلام والتعايش بين الشعبين المغربي والإسرائيلي؛
إذا كانت أرشيف المغرب قد نجحت فيما يمكن وصفه بالجهاد الأصغر وهي تطرق باب الذاكرة اليهودية المغربية، بناء على مذكرة التفاهم الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، فإن جهادا أكبر ينتظرها، يرتبط باستجماع ما هو ممكن ومتاح من الأرشيفات الدالة على كل ما هو يهودي- مغربي، بالتعاون البناء مع مؤسسة الأرشيف الإسرائيلي، وفي هذا الصدد، وبقدر ما ننوه بالمؤسسة الأرشيفية الوطنية ممثلة في مديرها وكافة أطرها، على هذا “السبق الأرشيفي” الذي أتى بعد أيام قليلة من الإعلان التاريخي عن الموقف الإسرائيلي بشأن قضية الوحدة الترابية للمملكة، بقدر ما ندعو باقي المؤسسات والهيئات الوطنية، من أجل الانخراط المسؤول في صلب هذه الدينامية الدبلوماسية الجديدة، بما يخدم التوجهات الاستراتيجية للدولة، تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله وأيده؛
بقيت الإشارة في خاتمة المقال، أن الوجود اليهودي في المغرب له تاريخ عريق وذاكرة خصبة، تحضر بصماتها في الأرشيفات المحفوظة في إسرائيل وعدد من الدول والمنظمات اليهودية، وفي ذاكرة المغاربة الذين تعايشوا طيلة عقود من الزمن، جنبا إلى جنب مع اليهود من أصول مغربية، في إطار من الاحترام والتعاون والتسامح والعيش المشترك، وقبل هذا وذاك، في التراث المعماري اليهودي وما يرتبط به من مساكن ومعابد، لازالت حاضرة حتى اليوم في النسيج العمراني لعدد من المدن المغربية العريقة، دالة على مرجعية هوياتية مغربية متعددة الروافد، أسست لمجتمع مغربي تعايش فيه المسلم واليهودي والمسيحي والعربي والأمازيغي والإفريقي، ولدولة مغربية متشبعة بقيم الحوار والسلام والتعايش؛
وإذا كانت إسرائيل اليوم على غرار عدد من دول أوربا وأمريكا، تضم ساكنة مهمة من اليهود من أصول مغربية، فهؤلاء، يتفردون عن غيرهم من اليهود، بتشبثهم بثقافة “تامغرابيت”، وما يرتبط بها من عادات وتقاليد وطباع وأنماط عيش، وبوفائهم كل الوفاء لوطن الآباء والأجداد، وهذا الوفاء ما كان له أن يتجسد على أرض الواقع، لولا ما تلقاه اليهود المغاربة عبر التاريخ، من احترام شعبي، ومن رعاية رسمية من جانب ملوك الدولة المغربية، لازالت قائمة ومستمرة حتى اليوم، وذاكرة هؤلاء المغاربة، تستحق أن تحفظ وتصان داخل أرض الوطن، مع ضرورة الإشارة إلى أن الجسر الأرشيفي المغربي الإسرائيلي الجديد، ستكون له بدون شك، قيمة أخرى مضافة بالنسبة لمؤسسة أرشيف المغرب، التي تستعد في الأشهر القليلة القادمة، للإعلان عن “استراتيجية جديدة للأرشيف”، يعول عليها لإحداث ثورة صامتة في مجال تدبير الأرشيف العمومي على مستوى التشريع والأداء والجودة والرقمنة والتكنولوجيات الحديثة والتواصل والإشعاع والرهانات…