الألباب المغربية/ نادية عسوي
ما يجري اليوم في شوارع وطننا يحزّ في النفس ويُؤلم القلب. لم يعد يكفي أن يعترف حزب بفشله في استقطاب الشباب أو في إدارة الشأن العام، بل عليه أن يكون أكثر شجاعة ويعترف بمسؤوليته عمّا وصلنا إليه. فالواقع لم يعد يحتمل لغة الأعذار أو التبريرات؛ الشوارع امتلأت بالشباب، بحماسهم، بشعاراتهم، وأحيانًا أيضًا بمشاهد عنف تضعنا جميعًا أمام سؤال صعب: من المسؤول عن هذا الشرخ العميق بين جيل جديد ومؤسسات قديمة؟
السياسة عندنا، في معناها الأصيل، كان يفترض أن تكون عملًا تطوعيًا نابعًا من قناعة وإيمان بالقيم، تُبنى عبر التدرج في النضال والاحتكاك بالناس. لكن ما نراه اليوم مختلف: وجوه تهبط بالمظلات على الأحزاب، يحسم حضورها المال والنفوذ أكثر مما يحسمه النضال. وهنا تتحول التزكيات من شهادة ثقة إلى ورقة لتعزيز النفوذ أو تمويل الحملات الانتخابية وشراء الأصوات، بدل أن تكون تكريمًا لمن أفنوا أعمارهم في خدمة الأفكار.
الخريطة الحزبية تعكس بوضوح هذا الاختلال:
- أحزاب نخبوية تبني قوتها على رجال الأعمال والوجهاء وآخرين من أصحاب النفوذ، وتضيف قليلًا من أبناء الشعب أو بعض الفنانين لدرّ الرماد في العيون، لكنها في العمق تمسك بخيوط الاقتصاد والسياسة معًا.
- أحزاب الموظفين والمعلمين والمهن الحرة، التي يُفترض أن تعبّر عن الفئات الوسطى، لكنها في كثير من الأحيان تكون أكثر شراسة في سياساتها على هذه الطبقة نفسها، فتزيدها إنهاكًا بدل أن تمنحها الأمان.
- أحزاب أخرى تبحث عن قواعدها في الهامش والشباب، لكنها سرعان ما تذوب في لعبة التوازنات الكبرى.
- وهناك أحزاب بلا لون ولا اتجاه، دائمًا مع الرابح، تتقلب مواقفها كل يوم، تهيم في السياسة كما يهيم الشعراء في كل واد، فلا تعرف لها هوية ثابتة ولا مبدأ راسخ.
فهل نستغرب بعد ذلك أن يبتعد جيل Z عن هذه المؤسسات؟ جيل واعٍ، متعلم، منفتح على العالم، لكنه لا يرى نفسه في أحزاب تحكمها الحسابات المالية أكثر من القيم. يعرف أن القرار لا يُصنع داخل القواعد، بل بين “أصحاب البدل” و”الهابطين بالمظلات”. لذلك يفضّل الشارع والسوشيال ميديا على مقرات حزبية فقدت جاذبيتها.
ومع ذلك، فإن ما يحدث في الشارع رسالة صريحة: الديمقراطية لا تختزل في مؤتمرات حزبية ولا في خطابات تحت القباب، بل في أن يجد المواطن، أيًّا كان جيله، مكانه الحقيقي في القرار. وهذا ما يحزن القلب أكثر: أن تتحوّل السياسة إلى لعبة ضيقة، بينما الوطن يحتاجها فضاءً واسعًا للمشاركة والثقة.
لا أحد يُمنع من حقه في السياسة، بما في ذلك رجال المال والأعمال. لكن ما يجب منعه هو أن تتحوّل المناصب العمومية إلى وسيلة للاغتناء أو حماية المصالح الخاصة. السياسة ليست صفقة، بل عقد أخلاقي مع المواطن، جوهره النزاهة والشفافية. والمسؤولية هنا جماعية:
- الأغلبية مسؤولة لأنها تدبّر وتنفّذ.
- المعارضة مسؤولة لأنها تراقب وتوجّه.
المواطن مسؤول لأنه حين يمنح صوته لمن لا يستحق، أو يقاطع تاركًا الساحة فارغة، فهو يشارك، بطريقة أو بأخرى، في تكريس هذا الواقع.
إن ما يجري اليوم أكبر من مجرد احتجاجات شبابية أو مظاهرات عابرة. إنه لحظة فاصلة تدعونا جميعًا لإعادة تعريف السياسة: هل هي ما نعيشه من صفقات وتزكيات، أم ما نحتاجه من ثقة ومشاركة؟ وهل نملك الشجاعة الكافية لنقول: نعم، أخطأنا، لكننا قادرون على الإصلاح؟
وهنا يبرز دور الشباب، وجيل Z بالخصوص: الاحتجاج حق مشروع، وصوت مسموع، لكنه لا يكفي وحده. المستقبل يحتاج إلى جيل يدخل المؤسسات، يغيّرها من الداخل، ويمنحها نفسًا جديدًا. فالوطن لا يُبنى بالرفض فقط، بل أيضًا بالاقتراح والمشاركة. وكل مواطن، مهما كان عمره أو موقعه، له الحق في أن يساهم في تسيير شؤون بلاده عبر صناديق الاقتراع، لكن دائمًا في تناسق مع المصلحة العليا للوطن.