الألباب المغربية/ عزيز لعويسي
ما يجري في الشرق الأوسط منذ ما وصف بطوفان الأقصى، لم يحمل فقط، المزيد من المعاناة والقسوة والألم لقطاع غزة وجنوب لبنان، ويفتح شهية إسرائيل للتمادي في سياسة الغطرسة والعنف والتحدي والاستقواء والتقتيل والتخريب، بل وأبان علاوة على ذلك، ما يعتري المجتمع المغربي من مظاهر التفرقة والتشرذم والانقسام والصدام والصراع الخفي والمعلن؛
حالة التصعيد الخطيرة التي يشهدها الشرق الأوسط، وضعتنا وجهـا لوجه، أمام مغاربة من أبناء جلدتنا، أجسادهم هنا داخل الوطن، وعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم هناك خارج الوطن، في إيران ومن يجري في فلكها من التابعين وتابعي التابعين، إيران التي أينما حلت، إلا وحل محلها الخراب والدمار والفتن ما ظهر منها وما بطن، ويكفي الإشارة إلى واقع حال بلدان عربية كالعراق وسوريا وجنوب لبنان واليمن، وما تعيشه من مظاهر الفشل والضعف والتفرقة والتشرذم، لندرك أن الخطر الشيعي، كان ولا زال، مهددا حقيقيا للأمن القومي العربي واللحمة العربية؛
المسيرات التضامنية التي نظمت هنا وهناك في عدد من المدن المغربية، تضامنا مع فلسطين السليبة، جمعت المحافظ بالحداثي، والشيوعي بالرأسمالي، واليميني باليساري، ورفعت فيها أعلام فلسطين والحزب الشيعي، وصور ورموز محسوبة على المقاومة، إلا أعلام الوطن وصور وثوابت الوطن، ولم تتوقف الحكاية عند هذا الحد، بل ورددت شعارات علنية، ضد الدولة، ومعاكسة لتوجهاتها وخياراتها الاستراتيجية، قوبلت بأخرى، مؤيدة وداعمة لإيران وللمقاومة ورموزها الذين قضوا تحت القصف الإسرائيلي العنيف؛
مشاعر وشعارات واندفاعات تهاجر بدون كلل أو ملل هناك خارج الوطن، وتختفي كلية من شاشة الرادار، لما يتعرض الوطن إلى الابتزاز والحملات المسعورة المستهدفة للوحدة الترابية، من طـــرف خصوم وأعداء الوحدة الترابية المكشوفين والمخفيين، وفي هذا الإطار، نشير إلى الاستفزازات الأخيرة للاتحاد الأوربي، وعداء النظام الكابراني الذي تجاوز الحدود، والمواقف العدائية لإيران بخصوص قضية المغاربة الأولى، وما حدث قبل أشهر في مدينة السمارة، لما تم استهدافها من طرفصعاليك تندوف، وقبلها ما وقــــع في معبر الكركرات، وكلهـــا أحداث ومشاهد من ضمن أخرى، لم تحرك مشاعر ولا شعارات ولا حماسة، من خرج إلى الشارع، واضعا كل بيضه في سلة إيران ومحورها؛
لا نسلب أي شخص أو تيار أو جهة، الحق في التظاهر والاحتجاج والتضامـــن مع فلسطين ولبنان وغيرهما، لكن ألا تتحرك المشاعر تضامنا مع الوطن وقضايــاه المصيرية، ويتم التضامن مع من يتحرش بالوطن ويهدد وحدته الترابية، وتتم الإسـاءة علنا للدولة باسم مناهضة التطبيع، فهذه الممارسات والتصرفات اللامسؤولـــة، لايمكن القبول بها البتة، لأن الوطن أحق بالاحترام والتقدير والتضامن والمواساة، وأجدر بالدفاع والمرافعة؛
مؤسف جدا من يتضامن مع إيران باسم المقاومة، وهو يعلم علم اليقين، أن لها مواقف علنية معادية للوحدة الترابية للمملكة، ومؤسف جدا أن تتلاقى تيارات واتجاهات متناقضة أحيانا، وتتوحد في غاية الإساءة للدولة والمساس بمصالحها الحيوية، والتعبير عن مشاعر الولاء لبعض من يهدد سلامة الوطن، ما يوحي أن أعداء الوطن كثر، وأخطرهم من يتواجد بيننا، من العابثين والحاقدين والوصوليين والمنافقين ومنعدمي المسؤولية والبصيرة، ممن يستغلون القضية الفلسطينية، لتصفية حساباتهم مع الدولة والوطن وثوابت الأمة؛
في هذا الصدد، وبقدر ما نتضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني، ومع كل الشعوب المقهورة والمستضعفة عبر العالم، باسم الإنسانية التي تجمعنا، بقدر ما نعبر عن مشاعر القلق والحسرة، بعدما تحولت فلسطين الجريحة، إلى قضية للاسترزاق، يلتف حولها المنافقون والانتهازيون والاندفاعيون والباحثون عن المصالح والمكاسب، وقضية تحولت إلى ما يشبه “التنويم المغناطيسي” تستعملها بعض الأنظمة المرتبكة، لترويض شعوبها المغلوب على أمرها؛
شعارات “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، ومسيرات التضامن التي يعلو في سمائها صوت الاندفاع والفانتازيا، لم تحمل إلى الشعب الفلسطيني، إلا المزيد من المعاناة والألم والحصار والدمار، والقضية برمتها، منحت لإيران عبر أدرعها، المزيد من تثبيت الأقدام في المنطقة العربية، والعبث بالبيت العربي، وفي هذا الصدد، فمن استعجل مباركة ما حدث يوم الطوفان، نذكره أن هذه المغامرة غير محسوبة العواقب، حملت معها المزيد من الخراب والدمار، والمزيد من الآلام والمآسي للشعب الفلسطيني، الذي ازدادت أوضاعه تعقيدا في ظل ما لحق قطاع غزة من دمار مرعب؛
القضية الفلسطينية تحتاج اليوم إلى “عقلاء” و”حكماء”، لا إلى “متضامنين” أقصى ما يفعلون “تسخين البندير” والتقاط “السيلفيات” مثنى وثلاث ورباع، ويغادرون إلى المقاهي والمطاعم والبيوت، في انتظار أن يدق جرس مسيرة جديدة، إلى “قادة ” حقيقيين، يقيمون بتجرد وواقعية، ما وقع بعد الطوفان، من خسائر جسيمة، كان بالإمكان تفاديها انقادا للأرواح وحماية للممتلكات، لو حضر التبصر والتقدير، ويقتنعون أن المقاومة التي لا تنظر بمنظار “الواقعية” و”التبصر”، لن تحمل إلا المزيد من الخراب والدمار والتقتيل والتنكيل، في ظل اختلال موازين القوى، لفائدة الطرف الإسرائيلي، المدعوم من أمريكا وحلفائها الغربيين؛
القضية الفلسطينية تحتاج اليوم، إلى تحريرها من إيران ومن يدور في فلكها، وكل من حولها إلى قضية مساومة وابتزاز واسترزاق، أشخاصا كانوا أو أحزابا سياسية أو أنظمة عابثة، وقبل هذا وذاك، تحتاج إلى توحيد الصف الفلسطيني الذي يزداد ضعفا وبؤسا في ظل القطيعة بين الأشقـاء الفلسطينيين،فلا يمكــن المواجهة، أو البحث عن الخيارات الممكنة للسلام، في ظل واقع فلسطيني، لا صوت يعلو فيه على صوت التفرقة والنفور والخلاف، أما البلدان العربية، خاصة التي انخرطت في مسار التطبيـــع، فهي مجبـرة اليوم وليست مخيرة، على التحرك في إطار المساعي الدبلوماسية المتاحة، من أجل توقيف عجلة الإبادة الجماعية في غزة وغيرها، والدفع في اتجاه دعم أية خطوة أو مبادرة، من شأنها تحقيق سلام شامل وعادل في إطار حل الدولتين؛
ما حدث ويحدث في فلسطين منذ عقود من صور الرعب والخراب والدمار، يسائل الضمير الإنساني العالمي الذي يكتفي بلعب دور الكومبارس، كما يسائل القوى الكبرى التي تتحمل مسؤولية افتعال الصراع، ومسؤولية ديمومته، ويسائل معها السياسة الإسرائيلية المتهورة، التي لا تكرس إلا المزيد من الحقد والكراهية والعداء لإسرائيل عبر العالم، ومن يتحكم في أزرار هذه السياسة، لابد أن يدرك أن التطرف يولد التطرف، والتورط في أكثر من جبهة قتال، لن يحمل إلى الشارع الإسرائيلي، إلا المزيد من الخوف والهلع والقلق والتوجس وعدم الاستقـرار، والحل يكمن في الاحتكام إلى سلطة “الإنسانية” وطرح أدوات الحرب والدمار، ومنح هذه المرة، الفرصة للســـلام، بالتجرد من كل مشاعر التطرف من هذا الطرف أو ذاك، فالسلام وحده، من يحمل الأمن والاستقرار والطمأنينة، ويفتح أفقـا للتعاون والتشارك والمحبة والعيش المشترك بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي؛
وبهـذا المنهج الواقعي والإنساني، يمكن الإسهام المشترك في بناء سلام طال أمده، وبقدر ما نؤمن أن هذا الموقف يبدو أقرب إلى الطوباوية، بقدر ما نتشبث بخيوط السلام، حتى لو كانت أهون من بيت العنكبوت، أما “فانتازيا” الشوارع وخطاب الوعد والوعيد والكر والفر، فلن يحمل للشعب الفلسطيني الشقيق، إلا المزيد من الآلام والمآسي، على أمل يرفع هذه المرة خطاب السلام والمحبة والعيش المشترك، أما من يستثمرون فلسطين وقضيتها، للإساءة للدولة والاصطفاف العلني في خندق أعداء الوطن، نذكرهم أن الولاء للوطن، وأن للأوطان حب من الإيمان…