الألباب المغربية/ ميمونة الحاج داهي
منذ أكثر من عقدين تتعامل الدبلوماسية المغربية مع قضية الصحراء بوصفها ملفا استراتيجيا طويل الأمد و لم تعتبره يوما قضية تفاوضية محدودة بزمن أو ظرف سياسي.
هذا الإدراك المبكر لطبيعة الصراع جعل الرباط تتبنى نهجا يختلف عن المقاربات الكلاسيكية في المنطقة نهج يقوم على الواقعية السياسية و التدرج وبناء المصداقية قبل المطالبة بها.
لقد تحول مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب عام 2007 من مبادرة وطنية إلى مرجعية سياسية دولية داخل الأمم المتحدة بفضل عملية تراكمية متدرجة أعادت تعريف أدوار الدبلوماسية المغربية ووظائفها.
فبدل أن تُستخدم الدبلوماسية كأداة لتبرير الموقف جرى توظيفها كوسيلة لبناء الشرعية الدولية حول رؤية مغربية للحل، تستجيب لمعايير القانون الدولي ومتطلبات الاستقرار الإقليمي في الوقت ذاته.
أول عناصر هذا التحول كان الربط بين الدبلوماسية والتنمية. منذ مطلع الألفية اشتغلت الرباط على تثبيت صورة الأقاليم الجنوبية كنموذج واقعي للحكم الذاتي المصغر من خلال بنى تحتية متقدمة ومشاريع اقتصادية كبرى، ومؤسسات تمثيلية محلية فاعلة.
هذه الخطوات الميدانية منحت المقترح المغربي مصداقية تطبيقية بحيث لم يعد خطاب الرباط يقدم كتصور نظري بل كواقع يمارس.
وبذلك تغير سؤال المجتمع الدولي من “هل يملك المغرب الحق؟” إلى “هل يملك الحل؟”
العنصر الثاني هو إعادة ضبط لغة النقاش الأممي… فمنذ عام 2007 تغير خطاب مجلس الأمن تدريجيا من الحديث عن “الاستفتاء” و”تقرير المصير” إلى التأكيد على حل سياسي واقعي وعملي ودائم وهي الصيغة التي وردت حرفيا في المقترح المغربي.
هذا التحول اللغوي الذي يبدو بسيطا ظاهريا يعكس تحولا مفاهيميا عميقا من رؤية النزاع كقضية تصفية استعمار إلى اعتباره خلافا إقليميا يحتاج إلى تسوية سياسية في إطار السيادة الوطنية.
أما العنصر الثالث فهو البراغماتية الجيوسياسية.. فالمغرب لم يشتغل على الملف بمعزل عن بيئته الإقليمية والدولية بل أدرك أن مقترحه لن يكتسب وزنه إلا إذا تماشى مع أولويات القوى الكبرى من مكافحة الإرهاب و ضبط الهجرة و كذلك الاستقرار الإقليمي.
من خلال هذا التلاقي في المصالح، استطاعت الدبلوماسية الملكية أن تحول دعم المقترح المغربي من موقف تضامني إلى موقف استراتيجي قائم على تقاطع المصالح.
وتزامن ذلك مع نجاح الرباط في إعادة تحديد أطراف النزاع… فقد أقنعت عددا متزايدا من العواصم المؤثرة بما فيها واشنطن وباريس ومدريد، بأن الجزائر طرف أساسي في هذا الملف، و ليست مراقب خارجي فقط كما تدعي.
هذا التغيير في زاوية النظر مكن الأمم المتحدة من تبني مقاربة أكثر واقعية وأعاد توازن النقاش داخل مجلس الأمن لصالح المغرب.
في المقابل، اتسمت المقاربة المغربية بقدر كبير من الاتزان في الخطاب إذ حرصت الرباط على عدم تحويل الخلاف السياسي إلى صراع عدائي فربحت بذلك ثقة شركائها، واستفادت من صورة الدولة المستقرة المتوازنة والعاملة على بناء الحلول بدل إنتاج الأزمات.
خلال السنوات الأخيرة، تجلت نتائج هذا المسار بوضوح… أكثر من ثلاثين دولة افتتحت قنصلياتها في مدينتي العيون والداخلة في ما يشبه اعترافا سياسيا ضمنيا بالسيادة المغربية وأحد عشر عضوا من أصل خمسة عشر في مجلس الأمن عبروا عن دعمهم الصريح للمبادرة المغربية.
بهذه المعطيات يمكن القول إن الدبلوماسية الملكية لم تنتصر في معركة المواقف فحسب بل في إعادة تعريف الإطار الدولي للنقاش نفسه.
لقد قدمت التجربة المغربية نموذجا فريدا في إدارة الملفات السيادية الحساسة، دبلوماسية لا تعتمد على الصدام ولا على الخطاب العاطفي إنما على التدرج و البناء المؤسسي وتوحيد المصالح.
إنها ما يمكن وصفه في أدبيات العلاقات الدولية بـ “القوة الهادئة”: قوة لا تفرض رؤيتها بالعنف و لكنها تقنع بها بالثبات والاتساق والاستمرارية.
وهكذا استطاعت الرباط عبر الدبلوماسية الملكية أن تحول مقترح الحكم الذاتي من مبادرة وطنية إلى إجماع دولي شبه مكتمل وأن تثبت أن السياسة حين تدار بعقل الدولة و تتجنب عاطفة اللحظة يمكنها أن تغير ليس مواقف العالم فحسب بل طريقته في التفكير.
لقد برهنت الدبلوماسية الملكية أن النفوذ الحقيقي لا يمكن ممارسته بإحداث الضجيج إنما يجب أن يعتمد على الاتساق والوقت، وكما قال هنري كيسنجر/ القوة في السياسة هي القدرة على تشكيل الواقع قبل أن يفرض نفسه.
وهذا بالضبط ما فعله المغرب لم ينتظر أن يتغير العالم ليفهمه لقد غير طريقته في فهم العالم..و تقدم خطوات عملاقة نحو الحل الواقعي الوحيد الذي سينهي هذا النزاع إلى الأبد.