الألباب المغربية/ نادية عسوي
في قوانين الطبيعة لا شيء يبقى على حاله، هناك مدٌّ وجزر، وليلٌ يعقبه نهار، وصيفٌ يليه شتاء، وولادةٌ تمهّد لشيخوخةٍ تُنذر بميلادٍ جديد. الكون يسير وفق مبدأ التناوب، لأن الثبات ضد الحياة، والحركة هي جوهرها. فالتغيير هو قانون الوجود وسرّ بقائه. كلّ شيءٍ في هذا الكون يتبدّل ليحافظ على توازنه، إلا الإنسان حين يتعلّق بالسلطة، فيريد أن يوقف الزمن ويجعل من الحاضر أبدًا لا يزول.
منذ أن عرف الإنسان الحكم، وهو يُختبر أمام إغراء البقاء. كم من زعيمٍ صعد باسم الثورة أو الإصلاح، ثم استقر على الكرسي حتى غادرته الحياة أو غيّرته السلطة.
في الاتحاد السوفياتي، جمع ستالين بين الثورة والدولة، فصار اسمه مرادفًا للسلطة. وفي روسيا الحديثة، عُدّلت الدساتير لتفتح الباب أمام استمرار القيادة، وكأن التداول مجرّد عبارة لغوية بلا مضمون.
وفي كوبا، بقي فيديل كاسترو زعيمًا لا يُغادر، يحكم باسم الثورة، ثم سلّم القيادة لأخيه كما تُسلَّم الموروثات العائلية.
وفي العالم العربي، رفع القذافي شعار الجماهيرية أكثر من أربعة عقود. أما زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، فقد بقيا إلى أن ناداهما الشارع بوضوح: آن الرحيل. وفي سوريا، تحوّل الحكم إلى إرثٍ عائلي في يد الأسد، وكأن البلاد توقفت عند اسمٍ واحدٍ لا يتغير.
وفي إفريقيا، ما يزال المشهد أكثر جمودًا، حيث لا يتزحزح الحاكم إلا بانقلابٍ يقتلع جذور النظام، لأن صناديق الاقتراع لا تغيّر الوجوه بل تكرّسها.
هذه الأمثلة، مهما تباعدت جغرافيًا، تعبّر عن طبيعةٍ بشريةٍ واحدة: الخوف من النهاية والرغبة في الخلود. فالسلطة تُغري، ومن يتذوّقها يصعب عليه أن يتخلى عنها. هي وعدٌ بالقوة، لكنها تولّد هشاشةً خفية، لأن من يخاف الفقد يعيش رهينة خوفه. وهكذا يتحوّل الزعيم إلى أسير الكرسي الذي يظنه ضمانًا للخلود.
وإذا انتقلنا من قصور الحكم إلى مقرات الأحزاب والنقابات والجمعيات، وجدنا المشهد نفسه وإن بألوانٍ أكثر نعومة.
أمناء أحزابٍ يقيمون في مناصبهم إلى أن يوافيهم الأجل، وجمعياتٌ وُلدت من رحم الديمقراطية تحولت إلى دوائر مغلقة تتكرر فيها الأسماء والوجوه، ونقاباتٌ لم تعد ساحاتٍ للدفاع عن الحقوق، بل عروشًا صغيرة يقف على رأسها زعماء خالدون.
وفي البرلمانات، هناك من يتشبّث بمقعده كأنه ميراثٌ شخصي لا وظيفةٌ وطنية. وهكذا تتكرّس ثقافة البقاء في كل المستويات، من القمة إلى القاعدة، فتفقد المؤسسات معناها ويبهت صوت التغيير.
لكن التناوب ليس خصومةً ولا خطرًا على الاستقرار، بل هو ضمانة الحياة نفسها. فكما تتناوب الفصول لتمنح الأرض خصوبتها، تحتاج المجتمعات إلى تجديد طاقاتها لتستمر. كلّ جيلٍ يحمل رؤيته وزمنه، وكل مرحلةٍ تحتاج وجوهًا جديدة تعبّر عنها.
الأمم التي لا تُجدّد نخبها تذبل، كما يذبل الغصن حين يُحرم من النسغ.
لقد خرج الشباب في الأيام الأخيرة يطالبون بحقهم في المشاركة لا رغبةً في الفوضى، بل شوقًا إلى وطنٍ يعترف بوجودهم. لكنهم حين ينظرون حولهم، يرون المشهد نفسه: نفس المقاعد، نفس الأسماء، ونفس الخطابات. فيتساءلون إن كان الطريق إلى التغيير لا يزال بعيد الضوء، وإن كان الأمل مؤجَّلًا إلى أن يشاء الله.
وقد يقول قائل إنّ ما يحدث داخل الأحزاب والنقابات والجمعيات شؤونٌ داخلية لا تعني أحدًا، لكنّي أقول: بل هي مرآةٌ لثقافةٍ أعمق؛ منطقُ الولاء قبل الكفاءة، ومنطقُ الخضوع والخنوع، وضمانُ البقاء في المجموعة خوفًا من الاقصاء
وحين تصبح الطاعة بديلاً عن الفكرة، والصمت طريقًا للترقّي، والكرسي هدفًا بدل أن يكون وسيلة، تضيع القيمة، ويبهت المعنى، ويصبح الوطن مجرد ساحةٍ للانتظار بدل أن يكون فضاءً للتجدد.
ولعلّ في كتاب الله تذكيرًا بحكمةٍ خالدةٍ لا يطالها الزمن، إذ يقول تعالى:
﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ “آل عمران 140″، ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ “البقرة 251”.
فالتداول سنةٌ من سنن الله في الكون، والدفع بين الناس هو ما يحفظ الحياة من الفساد والركود. ومن نسي هذه السنن خالف ناموس الوجود، وظنّ أن البقاء في الكرسي خلود، بينما الخلود لله وحده.