الألباب المغربية/ مرشد الدراجي
في ختام خطابه السامي بمناسبة عيد العرش المجيد، اختار الملك محمد السادس ان يختم كلمته بآية قرآنية من سورة قريش، قوله تعالى “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، وهي ليست مجرد خاتمة دينية عابرة، بل تذكير صريح وعميق بمصدر النعم وسبيل حفظها، ودعوة ضمنية إلى الالتزام بالمسؤولية والعدل قبل المطالبة بالتنمية والاستقرار.
الآية التي ختم بها الملك خطابه جاءت في سياق استعراضه لمنجزات تنموية مهمة حققها المغرب على مستويات متعددة، لكنها لم تكن مجرد زينة بلاغية، بل مقياسا أخلاقيا وروحيا لما يجب أن تكون عليه الدولة ومن يتحملون المسؤولية فيها، فقد ربط الملك بين الأمن والغذاء من جهة، وبين العبادة بمعناها الواسع الذي يشمل العدل والإنصاف وصون الأمانة من جهة أخرى.
وهنا يبرز التناقض المؤلم بين مضمون الخطاب الملكي وما يعرفه الواقع من تورط بعض المسؤولين والسياسيين والمنتخبين في نهب المال العام واستغلال النفوذ والتهرب الضريبي، فبينما يتحدث الملك عن العدالة المجالية والجهوية المتقدمة وتأهيل البنيات والكرامة الإنسانية، لا تزال تقارير رسمية تتحدث عن اختلالات كبيرة في تدبير الصفقات العمومية، وعن مسؤولين اغتنوا بشكل مشبوه، وعن أموال عمومية تحولت إلى غنائم شخصية.
التهرب الضريبي والاغتناء غير المشروع وتمرير الصفقات على المقاس ليست مجرد تجاوزات إدارية، بل سلوكيات تمس جوهر العقد الاجتماعي، وتنسف الثقة بين المواطن والدولة، وتتناقض مع فلسفة الحكم كما رسمها الملك، حيث لا تنمية بدون كرامة، ولا كرامة بدون شفافية وعدالة ومحاسبة.
حين يطالب الخطاب الملكي بأن تشمل ثمار التقدم كل المواطنين، في جميع المناطق والجهات دون تمييز أو إقصاء، فإن هذا يتطلب أولا تطهير المؤسسات من يستغلون السلطة لنهب المال العام، وتفعيل آليات المحاسبة في وجه كل من خان الأمانة، فكيف يعقل أن يبقى فاسد في موقع القرار وهو من تسبب في تعثر مشاريع كان يفترض أن تعيد الأمل لقرى ومناطق منكوبة بالفقر والتهميش
الآية التي ختم بها الخطاب تذكر الجميع، حكاما ومحكومين، أن من أطعمه الله من جوع وآمنه من خوف لا يجوز له أن يظلم غيره أو أن يعتدي على ما ليس له، لأن العبادة ليست مجرد طقوس بل سلوك ومسؤولية وأمانة، ومن خان الأمانة فقد جحد النعمة، ومن جحد النعمة فقد عرّض مجتمعه للخطر والاهتزاز.
خطاب الملك كان دعوة صريحة لبناء مغرب يتسع للجميع، مغرب يقوم على العدالة والكرامة والإنصاف، لا على الامتيازات والريع والإفلات من العقاب، ومن أراد أن يكون في صف الوطن فعليه أن يعبد رب هذا البيت كما أمر، وأن يصون ما أوكل إليه من مال عام وخدمة عمومية، لأن الوطن ليس شركة يربح منها من يملك النفوذ، بل بيت مشترك لا مكان فيه لمن يخون الأمانة أو يعبث بالثقة.
تلك هي الرسالة التي اختارها الملك مسكا للخطاب، رسالة تضع المسؤولية أمام مرآة الضمير، وتدعو إلى أن نعيد الاعتبار لقيم المواطنة والنزاهة والعدل، لأن الامن والاستقرار لا يدومان مع فساد مستشر، ولا تنمية تقوم على أسس مختلة، بل فقط حين يعبد الناس رب هذا البيت، ويشكروا نعمه بالعدل والإنصاف وصون الحقوق والواجبات.