الألباب المغربية/ حبيل رشيد
كلُّ إنسانٍ يحمل على كتفيه عبئاً خفياً لا يراه أحد… عبء القرارات القديمة، والأحلام التي لم تكتمل، والعلاقات التي ماتت ولم تُدفن بعد… يظن أنه حرٌّ لأنه يسير إلى الأمام، لكنه في الحقيقة يجرّ خلفه سلسلةً طويلة من “ما كان”، ويعيش وهو ينظر إلى الخلف أكثر مما ينظر إلى الطريق.
في لحظةٍ من لحظات الصدق، يسأل نفسه: لماذا أواصل رغم أنني تعبت؟… لماذا لا أترك كل شيء وأبدأ من جديد؟ ثم يجيبه داخله بصوتٍ خافتٍ ولكنه آمر: لأنك أنفقت الكثير… لأنك ضحّيت كثيراً… لأن الرجوع الآن سيجعل كل ما فعلته بلا معنى. وهنا يقع في الفخ الذي لا يراه، فخّ عبودية الماضي، أو ما يسميه العلماء مغالطة التكلفة الغارقة.
إنها الحيلة الأذكى التي تمارسها النفس ضد العقل، حين تُقنعه أن الماضي مقدّس، وأن كل ما بُذل فيه لا يجوز التخلّي عنه… كأن العمر يجب أن يُبدَّد كله في إصلاح ما لا يُصلح، أو في انتظار ما لن يعود.
تبدأ الحكاية صغيرة: تذكرةُ سينما، كتابٌ مملّ، علاقةٌ متعبة، مشروعٌ فاشل، ثم تتحول مع الوقت إلى فلسفة حياة، نواصل فيها الخسارة لأننا لا نحتمل فكرة أن نعترف بها.
كم من رجلٍ يجلس كل صباحٍ في مقهى يعرف أنه لم يعد يطيقه، فقط لأنه كان يأتيه منذ عشرين سنة، وكم من موظفٍ يذهب إلى عملٍ يقتله كل يوم، لأنه لا يستطيع أن يقول لنفسه: “لقد اخترت خطأً”… وكم من امرأةٍ تبقى في بيتٍ يخلو من الدفء لأنها لا تحتمل فكرة الطلاق بعد عمرٍ طويلٍ من الصبر… الكلّ يعيش داخل هذه الدائرة المغلقة من الوهم، دائرة تقول: “ما دمتُ بدأتُ، فلا بد أن أُكمل”، ولا أحد يسأل نفسه: “لكن إلى أين؟”
إننا نخاف أن نبدو متناقضين، نخاف من التراجع كما نخاف من الموت، نعتقد أن الثبات على الخطأ فضيلة، وأن الاعتراف بالتبدّل ضعفٌ في الشخصية، مع أن الحياة كلها تغيّر، والجمود وحده موت.
نتمسك بما يؤلمنا، لأن الألم صار دليلنا الوحيد على أننا عشنا… نغرس أيدينا في الرماد ونسمّيه وفاءً، ونبقى ننفخ فيه على أمل أن يعود جمره القديم إلى التوهّج.
في داخل كلٍّ منا صوتٌ قديم يقول: “لقد تعبت كثيراً، فكيف أترك الآن؟”… ولا أحد ينتبه إلى أن التعب ليس دليلاً على الصواب، بل ربما دليلٌ على الطريق الخطأ. إن الحطّاب لا يواصل الضرب في جذعٍ ميتٍ لأنه تعب من المحاولة، بل يتوقف، يبحث عن شجرةٍ أخرى، عن غابةٍ أخرى، عن بدايةٍ جديدة. لكننا نواصل في اللاجدوى، ونسمّي ذلك إخلاصاً، ونموت ببطءٍ ونحن نصدّق كذبتنا.
في مغالطة التكلفة الغارقة، نعتقد أننا نحمي ما بذلناه، لكننا في الحقيقة نحمي كبرياءنا… نخاف من لحظة الاعتراف، نخاف من أن ننظر إلى وجوه من حولنا فنجد فيها سؤالاً صامتاً: “ألم تقل يوماً إنك على صواب؟”… فنكابر، وننفق مزيداً من الجهد والمال والعمر، حتى لا نبدو متناقضين، وحتى لو كان الثمن هو أن نفقد كل شيء.
يبدو الإنسان في تلك اللحظة مثل مقامرٍ خسر نصف ماله، ثم يضاعف رهانه لعلّه يسترجع ما فقد، مع أن العقل يقول له: انسحب، كفى، أنقذ ما تبقّى… لكنه لا يسمع.
وقد رأينا هذا في قصصٍ كثيرةٍ حولنا: رجلٌ يشتري أرضاً لا تصلح للزرع، ثم يواصل صرف المال عليها لأنه أنفق فيها الكثير… طالبٌ يدخل تخصصاً لا يحبه، ثم يواصل لأنه قطع فيه نصف الطريق… زوجان يعيشان في بيتٍ متصدّع، لكنهما يواصلان العيش فيه لأنهما لا يريدان الاعتراف بالهزيمة… كلّ ذلك لأننا نعبد ما أنفقناه، لا لأننا نحب ما نفعله.
وهكذا تصبح الخسارة الأولى بذرةً لسلسلةٍ طويلةٍ من الخسائر الجديدة، لأننا لا نريد أن نرى الأولى… نغلق أعيننا ونقول: “سيتحسن الأمر”، ثم نمضي في التيه. والمشكلة ليست في الخطأ، بل في العناد الذي يجعله مصيراً.
ربما لهذا السبب تستمر الأمم في مشاريع فاشلة، وتستنزف ثرواتها في حروبٍ لا معنى لها، لأن الاعتراف بالفشل يُعتبر سقوطاً سياسياً أو قومياً… وهكذا طالت حروبٌ كان يمكن أن تنتهي في عام، واستُنزفت ميزانياتٌ كان يمكن أن تعمّر بلداناً كاملة، كل ذلك لأن أحداً لا يريد أن يقول: “لقد أخطأنا”… البشر جميعاً يخافون من الجملة القصيرة تلك، رغم أنها مفتاح كل إصلاح.
الإنسان حين يخطئ لا ينهار الكون، لكنه ينهار حين يرفض أن يرى خطأه. التراجع ليس جريمة، بل هو صورةٌ من صور الوعي، والوعي نفسه لا يولد إلا من الألم.
العقلاء لا يُقاسون بثباتهم على فكرةٍ واحدة، بل بقدرتهم على مراجعة أنفسهم كل يوم… لأن الثبات إذا لم يكن على حق، صار عناداً، والعناد إذا استمر صار عبوديةً، والعبودية للماضي أخطر أنواع الأسر.
منذ صغري كنت أرى حولي أناساً يعيشون في الماضي، يبرّرون كل ما يفعلونه بعبارة: “لقد مضى نصف العمر، لم يبقَ ما يستحق التغيير”… كأن التغيير امتيازٌ للشباب فقط، وكأن الحياة تتوقف عند سنٍّ معين.
لكن ما فائدة عمرٍ يُعاش على التكرار؟ وما فائدة الطريق إن كان لا يؤدي إلا إلى العدم؟
يقول أحد الحكماء: “إن من يتمسّك بالرماد ظانّاً أنه النار، سيحترق من البرد قبل أن يفهم.”… كذلك من يواصل في مشروعٍ ميتٍ لأنه أنفق فيه الكثير، سيخسر في النهاية كل ما يملك، مادياً وروحياً.
إن كل ما أنفقناه في الماضي صار جزءاً من التاريخ، لا يصلح حجةً للمستقبل… فلا المال الذي صرفناه يمكن أن يعود، ولا الوقت الذي ضاع يمكن أن يُستعاد، ولا المشاعر التي أُهلكت يمكن أن تُروى من جديد. الماضي يُدفن، أما نحن فنبقى نحمله على ظهورنا كجثةٍ لا نجرؤ على دفنها.
لقد رأيتُ أشخاصاً يواصلون قراءة كتبٍ مملةٍ حتى الصفحة الأخيرة فقط لأنهم بدأوا فيها، ورأيتُ من يلتهم نصف طبقٍ من طعامٍ لا يحبه لأنه دفع ثمنه، ورأيتُ من يبكي كل ليلةٍ على حبٍّ خذله ثم يعود إليه في الصباح بحجة أنه ضحّى كثيراً… كأن التضحية تصنع من الخطأ صواباً.
وفي أحيانٍ كثيرةٍ، يكون سبب استمرارنا بسيطاً حدّ السخرية… نخاف من نظرة الناس، نخاف من الشفقة، نخاف من أن يقولوا: «ضيّع عمره بلا جدوى»، فنختار أن نضيع أكثر كي لا يقال ذلك. إننا نعيش للعيون التي تراقبنا لا للضمير الذي يهمس فينا.
لكن متى نفيق؟ متى نفهم أن النجاة ليست في المضيّ قدماً، بل في معرفة متى نتوقف؟ أن الشجاعة ليست في الصبر على الخسارة، بل في الاعتراف بها؟ أن أعظم القرارات ليست تلك التي تواصل الطريق، بل تلك التي تغيّر الاتجاه؟
كل طريقٍ مهما كان طويلاً يبدأ بخطوة، وكل طريقٍ مهما كان خاطئاً يمكن الخروج منه بخطوةٍ أيضاً. الفرق أن الأولى تحتاج حماساً، والثانية تحتاج وعياً… والناس يحبّون الحماس أكثر مما يحبون الوعي.
يظن الإنسان أن توقفه يعني الفشل، لكنه حين يتأمل يكتشف أن الفشل الحقيقي هو الاستمرار في ما لا جدوى منه… أن السقوط مرةً واحدةٍ أهون من الانزلاق المستمر، وأن الحياة لا تكافئ من يعاندها، بل من يفهمها.
إن الماضي لا يملك علينا سلطةً إلا بقدر ما نمنحه نحن… ولو شئنا، لتركناه في مكانه ومضينا خفيفين. لكنه يهمس إلينا كل يومٍ بصوتٍ حنينٍ وخداع: “ارجع إليّ… أكمل ما بدأت”… فنصدّقه، لأننا ضعفاء أمام ما كان.
وهنا تتجلّى المأساة الكبرى… أننا لا نعيش ما هو كائن، بل ما كان يمكن أن يكون… نحيا في احتمالاتٍ ميتة، في ذكرياتٍ تحجّرت في قلوبنا، ونظن أننا بذلك أوفياء، بينما نحن في الحقيقة خائفون…
الخوف من الاعتراف يجرّنا كما يجرّ الموج حطام السفن، والخوف من الندم يجعلنا نرتكب الندم نفسه ألف مرةٍ بطريقةٍ جديدة.
منذ زمنٍ بعيدٍ كتب أحد الفلاسفة: “لا شيء أثقل على الإنسان من فكرة أنه كان مخطئاً”. وربما لهذا، تراه يواصل التورّط في الأخطاء ليُثبت لنفسه أنه لم يخطئ… لكنه في كل مرةٍ يثبت العكس.
العقل السليم لا يسأل: ماذا خسرنا؟ بل يسأل: ماذا سنخسر إن واصلنا؟… فالحكمة ليست في أن تنقذ الماضي، بل في أن تنقذ نفسك منه.
إن ما مضى لا يستحق أن يُعبد، بل أن يُفهم… ومن فهمه، تحرر منه، ومن تحرر، عاش.
وكم هو جميلٌ أن يأتي الإنسان إلى لحظةٍ يقول فيها بهدوء: كفى… لا لأن الأمر انتهى، بل لأنه لم يعد جديراً بالاستمرار… تلك اللحظة ليست ندمًا، بل نضوج، ليست هزيمة، بل فوزٌ من نوعٍ مختلف، فوز العقل على الغرور، وفوز البصيرة على العادة.
في النهاية، لا أحد ينجو من أخطاء الماضي، لكن بعضنا ينجو من عبوديته… وبعضنا يبقى حارساً لقبره، يضع فوقه الزهور كل يومٍ باسم الوفاء، وينسى أنه يعيش بين الأموات.
الماضي لم يطلب منا أن نحمله، لكنه ترك فينا أثراً ونحن من اختار أن يتحول الأثر إلى قيد…
فلننظر حولنا، كم من علاقةٍ يجب أن تنتهي لكنها لا تنتهي… كم من مشروعٍ يجب أن يُوقف لكنه يواصل النزيف… كم من حياةٍ تُستهلك في محاولاتٍ يائسةٍ لإحياء ما مات… ثم نسأل: لماذا نتعب؟ والجواب أمامنا واضح: لأننا نعبد ما أنفقناه بدل أن نُكمل حياتنا.
المستقبل لا يُبنى على أطلال الماضي، بل على وعينا بأن الأطلال كانت درساً… إن الماضي، مهما كان مؤلماً، لا يستحق أن نعيش فيه ثانيةً واحدة… والحاضر لا يحتمل أن يُختزل في تبرير الخسائر القديمة… أما الغد، فلا يولد إلا حين نترك أيدينا من الرماد، ونمضي نحو الضوء الذي ينتظرنا…
لقد آن لنا أن نفهم أن التخلّي ليس ضعفاً، بل نوعٌ من الحب للذات… أن نحب أنفسنا بما يكفي لنقول: انتهى ما كان، وليبدأ ما سيكون… أن نكسر القيود التي صنعناها من الذكريات، وأن نكفّ عن عبادة ما أنفقناه… لأن ما أُنفِقَ قد مضى، وما بقي هو الحياة نفسها، تنتظر أن نختارها دون خوف، دون كبرياء… دون ماضي.