الألباب المغربية/ سعيد موزك
تشكل الممارسات التي يقوم بها بعض المتطرفين – ممن تجاوزوا حدود الاحتجاج المشروع إلى الاعتداء على رموز الدولة ومقدراتها- تحديا صريحا للنسق الاجتماعي. إن استمرار هذه الأفعال، ووصولها إلى حد المساس بحرمة رجال الأمن ومقراتهم، هو إعلان ضمني عن رغبة في تجاوز عقد العيش المشترك، هنا تبرز الحكمة المجتمعية التي تقتضي، في مثل هذه الحالات، عدم التمادي في التسامح مع من ينقضون أسس العقد، بل “حل الباب” لهم رمزيا، عبر تطبيق القانون بحزم ووضوح، ليفهموا أن ما يحصدونه من عواقب هو نتيجة طبيعية لاختياراتهم.
وفي سياق متصل، يبرز دور المحرضين الرقميين كعامل مضاعف للفوضى، فهؤلاء لا يشاركون في الجريمة فحسب، بل يخططون لها نفسيا ويبررونها أيديولوجيا، مما يجعل خطرهم على السلم الاجتماعي أعمق، ومن ثم، فإن الدعوة إلى محاكمتهم بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وفرض عقوبات رادعة عليهم تفوق عقوبات المنفذين الميدانيين، ليست إلا اعترافا بالدور التأسيسي للفكر الإجرامي في إنتاج السلوك الإجرامي، فالعقل الذي يخطط للخراب أخطر من اليد التي تنفذه.
ويمكن وصف هذه الجماعات بـ “جماعات الليل” أو “الخفافيش” – إن جاز التعبير الاستعاري – لا لأنها تختفي من الظلام، بل لأن وجودها الوجودي مرتبط به، إنها “تستيقظ قبيل الغروب” لأن هويتها تبنى على نفي الآخر ونقد النظام القائم، فتبدأ “نهارها المظلم” بالتواصل في “دوارها الافتراضي”، حيث يغذي أفراد بعضهم بعضا بالغضب والخطاب التآمري، مما يخلق واقعا موازيا تذوب فيه المسؤولية الفردية وتتصاعد فيه النزعة التخريبية.
ولا يمكن إلا أن ننظر إلى هؤلاء بشفقة مختلطة بالألم، فهم في العمق، ضحايا لخطاب كراهية سلبهم إنسانيتهم وقطع أواصر انتمائهم، إن الاندفاع نحو التخريب هو غالبا تعبير صارخ عن جروح نفسية عميقة، وعن شعور باليأس والإقصاء. ومع ذلك فإن فهم الدوافع لا يعني أبدا التبرير أو التهاون. فالمساءلة القانونية العادلة هي في الحقيقة أعلى درجات الاحترام للإنسان، لأنها تتعامل معه ككائن عاقل ومسؤول عن أفعاله، وتحميه من نفسه ومن الانزلاق إلى هاوية لا قاع لها. إنها المحبة الصارمة التي تريد للفرد والمجتمع السلامة والاستقرار.
وتشكل الديناميكيات الحالية في مجملها، بيئة خصبة لاختبار متانة النسيج الاجتماعي، وما يزيد من تعقيد المشهد أن بعض النخب المثقفة تقدم غطاء شرعيا لهذه الممارسات، مما يضعها في موقع الشريك في المسؤولية عن الأذى الذي يلحق بالكيان الوطني.
ووراء هذا الغطاء، تكمن معضلة نفسية عميقة؛ فالفرد الذي يتلذذ بمشاهدة العنف لا يظل مجرد متفرج سلبي، بل غالبا ما يخفي استعدادا باطنيا للانخراط فيه، أو على الأقل، تبريره والتصفيق له. في هذا الصدد تؤكد نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا (Albert Bandura) على أن التعرض المستمر للنماذج العنيفة – حتى بشكل متخيل أو افتراضي – يضعف الموانع الأخلاقية لدى الفرد ويزيد من استعداده للسلوك العدواني، يرى علم النفس في هذا النزوع علامة على “انزياح في منظومة القيم”، حيث يضعف التعاطف الإنساني لتحل محله قداسة القوة والقسوة.
إن تحويل العنف إلى مصدر للمتعة، يشير إلى تحول خطير في البنية النفسية؛ حيث يبدأ العقل الباطن في اعتبار العنف وسيلة مشروعة لحل النزاعات، بل وقد يرفعه إلى مرتبة الفخر والانتصار، هذا “المزج المرضي بين المتعة والتبرير” يهيئ الأرضية لتشكل شخصية ذات نزعات سادية، وهو ما تمت دراسته في إطار ما يعرف بـ “التخفيف من المبادئ الأخلاقية” (Moral Disengagement) كما شرحه باندورا، حيث يعيد الفرد صياغة أفعاله الضارة على أنها مقبولة أخلاقيا.
وهنا تكمن الجوهرة السوداء في هذه المعادلة: فالخطورة لا تكمن في المتلذذ بالعنف ذاته، بل في تحوله من مستهلك سلبي إلى تهديد كامن. إن ذلك “الإحساس الداخلي بالرغبة في المشاركة” يجعله “خلية نائمة” تشكل تهديدا صامتا للمجتمع، وهذا يتوافق مع ما حذر منه عالم النفس إيرفينغ ستوب في مؤلفه الأساسي “The Roots of Evil” ( جذور الشر)، حيث يوضح كيف أن الظروف المجتمعية والتطبيع التدريجي مع العنف يمكن أن يحول الأفراد العاديين إلى منفذين للعنف، وهذا يستدعي منا، كمجتمع يحافظ على ذاته، “تشخيص هذه الحالة” ومراقبتها بعين الحكمة واليقظة، قبل أن تتحول من استعداد نفسي إلى فعل مادي مدمر حينما تتهيأ لها البيئة المناسبة، فالوقاية من الشرور الناشئة عن النفس البشرية هي أولى خطوات الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه الوجودي.