الألباب المغربية/ محمد خلاف
.. وانتهت عطلة المسيرة الخضراء بسرعة البرق؛
كان علي العودة الى مدينة تيزنيت البعيدة عن الفقيه بن صالح بحوالي 500 كلمترا؛ ومنها الى الفرعية مقر العمل والبعيدة تقريبا 90 كيلومترا عن تيزنيت؛ عبر وسائل نقل متعددة؛ وكان وصولي الى تيزنيت معقل سوس أو العين الزرقاء كما يحلو لأهلها تسميتها؛ يتزامن دوما مع وصول أفواج المعلمين والمعلمات من جميع أرجاء المغرب؛ كانت ساحة المشور ملتقى الجميع بمحطتها الطرقية وفنادقها الرخيصة، وتجار الفضة ومقهى الأطلس الشهيرة؛ وتمركز جميع المظاهر الاقتصادية والاجتماعية بها؛ في انتظار وصول الساعة الواحدة موعد انطلاق رحلة العذاب والمغامرة على متن سيارة الخطاف حيث تختلط روائح محرك السيارة والنعناع والخضر وأشياء أخرى، نصف السيارة أو أكثر من المعلمين العائدين. وصولي إلى الفرعية يتم ليلا لتبدأ رحلة البحث عن الشمع والمصباح اليدوي؛ وتفتيش الفراش خوفا من دخول عقرب أو أفعى خلسة خلال أيام العطلة؛ كم عقارب وأفاعي صادفنا؛ وسأتحدث عن ذلك في بعض اليوميات القادمة؛ بعد ذلك تتفقد المطفية مصدر الماء والحياة.
أربع سنوات تباعا شربنا ماء المطر من المطفية المنساب من الجبل زمن تساقط الأمطار داخلها؛ وبتقنية تقليدية هي التصفية من الشوائب بواسطة رمي الجير أو الاسمنت وهو ما يساعد على الترسب؛ ما أحلاه في اعداد الشاي؛بارد جدا صيفا وشتاء، له ذوق ولون عكس نظريات الفيزياء والعلوم.
الليلة الأولى بالفرعية كابوس رعب حقيقي بين تخثر الزمن وتذكر الأهل والمدينة مسقط الرأس وحب القلب؛ لتنقطع أخبارك من جديد كأسير حرب زمنا غابرا؛ ولتظفر بالهاتف عليك انتظار يوم السوق الأسبوعي؛ أو السفر مسافة لا تقل عن 7 كيلومترات. ويشدك الحنين والتوق؛ وتشعر بغبن الزمن وسخرية القدر أكثر عند تفقد حقيبتك؛ وتجد الوالدة قد غسلت ثيابك؛ وهيأت لك بعض الحلوى والسفوف.. إحساس صعب تقاسمناه تلك اللحظات جميعا. وفي الصباح تنتظر تقاطر أفواج التلاميذ؛ يأتون فرادى في الغالب بلباس سوسي أصيل الفوقية الزرقاء والبلغة الصفراء (ايدوكان)؛ ويستأنف العمل بجد واجتهاد؛ الفراغ وقتل الوقت اعتبرته جريمة مما ولد لدي رغبة جامحة في الخلق والإبداع؛ كنت أخصص حصصا خارج أوقات العمل للخط العربي وتقنياته؛ وحصصا للثقافة العامة والمسابقات؛ وتارة لحلاقة شعر التلاميذ؛ وكان زميل لي يخصص حصصا لترتيل القرٱن وقواعد ذلك لتمكنه من ذلك العلم؛ أكاد أجزم أن مستوى السادس ٱنذاك أحسن بكثير من مستوى غالب الوحدات المدرسية التي درست بها بعد؛ جل التلاميذ وبقساوة المنطقة واصلوا الدراسة أعرف منهم المحامي والنظاراتي والصحافي و… كلهم تلاميذي زمنا جميلا وكما قال شكسبير جمال المكان بمن رافقك فيه وجمال الوقت بمن شاركك فيه.
بعد أسبوع تقريبا وراء العطلة لمح أحد التلاميذ عند خروجه الى المرحاض سيارة من بعيد تصارع مسالكا وأودية؛ جاء مهرولا لإخبارنا أنها لاندروفير الخضراء بحكم معرفته المسبقة بها؛ تقل إضافة الى السائق مفتش العربية ادريس قشمار رجل التكوين والطيبوبة والثقافة والإنسانية؛ ومفتش الفرنسية عبد القادر الموجاني يزيد عن الأول بكثير من الأوصاف؛ سر كثيرا مفتش العربية بشكل الوثائق وتواجدها محينة؛ وبمستوى التلاميذ؛ وذكاءاتهم المتعددة وفضاء قسمهم وانجازاتهم؛ ونظافتهم؛ ومنحني تفتيشا أعفاني من ملاحظة واقتراح السيد المدير للترسيم؛ وبعد دردشة مع مفتش الفرنسية وجدته ابن الجهة؛ وكان مدرسا بأولاد زيان نواحي الفقيه بن صالح؛ سألني عن بعض زملاء عمله القدامى، وحال المدينة وأحوالها ونصحني أيضا بالاستمرارية وتشريف أبناء الفقيه بن صالح؛ سررت كثيرا؛ زاد حماسي في العمل؛ سر المدير أيضا وبدأت البحث عن حياة برهانات جديدة وبقلب جديد وتأكدت أني لا أملك إلا هذه الحياة وهذا الوطن ووعدت نفسي أن أخدمهما بجد؛ وبعد ذلك استمرت الحياة بادموسى؛ وبدأت التشطيب في اليومية في انتظار عطلة جديدة وخروج الرابيل وتسويتي ماديا وإداريا… يتبع في يومية التسوية المادية