الألباب المغربية/عزيز لعويسي
يحتفي الشعب المغربي قاطبة بالذكرى 49 للمسيرة الخضراء المظفرة، التي تعد محطة وضاءة في الذاكرة النضالية الوطنية، وحدثا بارزا في مسار المقاومة والتحرير، مكن من افتكاك الصحراء المغربية من يد الاستعمار الإسباني، وعبد الطريق لاسترجاع ما تبقى من الأقاليم الجنوبية؛
وفي هذا الإطار، إذا كان التاريخ قد سجل للملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، إبداعه وهندسته لواحدة من أكبر وأعظم المسيرات السلمية والتحريرية في التاريخ المعاصر والراهن، التي مكنت من استرجاع الصحراء إلى مغربها، ومحافظته على وحدة الأرض وسلامة التراب، في سياق جيوسياسي إقليمي ودولي، مطبوع بالتوتر والمؤامرات والدسائس، وموسوم بنعرات الانقلاب والانفصال، فإن خلفه الملك محمد السادس أيده الله، تحمل وزر الصحراء المغربية، وحقق بشأنها إجماعا رسميا وشعبيا، جعلها قضية المغاربة الأولى؛
من الراحل الحسن الثاني إلى خلفه ووارث سره الملك محمد السادس، ورغم تغير الظروف والسياقات الجيوسياسية والاستراتيجية الإقليمية والدولية، ظل المغرب في صحرائه وظلت الصحراء في مغربها، رغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين، بفضل رؤية متبصرة للعاهل المغربي، بدت ملامحها الأولى، منذ قرار العودة إلى الاتحاد الإفريقي، والذي كان منعطفا بارزا في قضية الصحراء المغربية، لما أتاحه من فرص في كبح جماح خصوم وأعداء الوحدة الترابية، من محتضني أطروحة الوهم وداعميها، وتضييق الخناق على نظام الشر بالجزائر، الذي طالما استغل “الكرسي المغربي الشاغر” في المنتظم الإفريقي، للترويج لأكاذيبه ومغالطاته ومزاعمه الانفصالية، مراهنا على دبلوماسية شراء ذمم الكثير من الدول الإفريقية الفقيرة والمعوزة، ما يخدم عقيدته العدائية الخالدة للمغرب ووحدته الترابية؛
عودة المغرب إلى الأسرة الإفريقية، لم تمكن فحسب، من محاصرة مناورات ودسائس نظام الشر، بل وعبدت الطريق أمام المغرب، لتمتين الصلات الدبلوماسية والتنموية والاقتصادية، مع الدول الإفريقية الشقيقة والصديقة، في ضوء ما قام به الملك محمد السادس من جولات مكوكية في عدد من الدول الإفريقية، كان من نتائجها، تثبيت الأقدام المغربية في العمق الإفريقي في إطار علاقات رابح رابح، وبداية تفكيك صخرة العداء الجزائري من الداخل الإفريقي، عبر الرهان على دبلوماسية ناعمة، قوامها التعاون والمصالح المشتركة، وعمودها المركزي، وضع إفريقيا على سكة البناء والنماء والازدهار، ما جعل الكثير من الدول الإفريقية، تؤمن بعدالة وشرعية القضية المغربية؛
واليوم وبعد 49 سنة من مسيرة فتح المجيدة، انتقلت قضية الوحدة الترابية من “مرحلة التدبير”إلى “مرحلة التغيير” داخليا وخارجيا، ومن “مقاربة رد الفعل” إلى “أخذ المبادرة” و”التحلي بالحزم والاستباقية”، كما أكد ملك البلاد، في الخطاب السامي الموجه إلى أعضاء البرلمان بمناسبة الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشر، وهذه المتغيرات الدبلوماسية، عكسها الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك والشعب، لما أكد جلالته أن ملف الصحراء هو “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم” وذاك “المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”، منتظرا جلالته من بعض الدول من الشركاء التقليديين والجدد، الذين يتبنون مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء، أن “توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”؛
المنحى الجديد الذي اتخذته الدبلوماسية المغربية تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، كان من ثماره، تحقيق الكثير من المكاسب الدبلوماسية الوازنة، الداعمة لسيادة المغرب على صحرائه، جسدها اعتراف دول وازنة فاعلة في المجال العالمي، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي شكلت باعترافها التاريخي، منعطفا فاصلا في تاريخ النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، قياسا لما تلا ذلك، من دينامية دبلوماسية غير مسبوقة، توسعت معها دائرة الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على صحرائه، في وقت دخل فيه الراعي الرسمي لجمهورية السراب، في حالة من الارتباك والتيه والسعار، بسبب قوة ودقة الضربات الدبلوماسية المغربية الناعمة؛
المسيرة الخضراء المظفرة في ذكراها 49، تحل بعد أن حقق المغرب قبل أيــام، فتحا دبلوماسيا مبينا، جسده اعتراف فرنسي غير مسبوق بسيادة المغرب على صحرائه، عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام مجلسي البرلمان في زيارته الأخيرة للمملكة، بالقول أن “حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان تحت السيادة المغربية”، مما فتح العلاقات المغربية الفرنسية على شراكة استراتيجية حملت طابـــع الاستثناء، وأدخل بالمقابل، خصوم وأعداء الوحدة الترابية، في حالة من العزلة واليأس والسعار؛
الموقف الفرنسي بحمولته التاريخية والقانونية والدبلوماسية، ستعقبه بدون شك، مواقف جديدة داعمة لمغربية الصحراء، ويمكن أن نترقب في القادم من الأيام أو الأسابيع، انضمام الاتحاد الأوربي إلى ركب الدول الداعمة لسيادة المغرب على صحرائه، شأنه في ذلك شأن بريطانيا ودول وازنة أخـــرى كروسيا والصين، وهذه الدينامية الدبلوماسية، بقدر ما تعكس اعترافا للمنتظم الدولي بعدالة ومشروعية قضية المغرب الأولى، بقدر ما تؤشر على انهيــار وشيك لما يحتضنه نظام العداء من أحلام وأوهام، لا توجد إلا في مخيلته الصغيرة، التي لازالت رهينة الماضي، في عالم متغير، لا يؤمن إلا بلغة الوحدة والسلام والعيش المشترك والتعاون والمصالح المتبادلة؛
المسيرة الخضراء المظفرة، هي مسيرة ممتدة في الزمن والمكان، في ضوء ما يقوده الملك محمد السادس من مسيرة تنموية مفتوحة تروم الرفع من القدرات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، وتحقيق الإقلاع التنموي الشامل، وفي هذا الإطار، وبقدر ما رفعت الدولة المغربية رهان الدفاع عن قضية الوحدة الترابية بكل السبل الدبلوماسية والقانونية المتاحة، بقدر ما راهنت علاوة على ذلك، على وضع الأقاليم الجنوبية في صلب المسيرة التنموية الرائدة، في ضوء النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، ما حول الصحراء برمتها، إلى أوراش تنموية واقتصادية مفتوحة، دافعة في اتجاه تحويلها إلى واجهة مغربية أطلسية، يمكن أن تلعب دور جسر العبور بين أوربا وإفريقيا وأمريكا.