الألباب المغربية – محمد عبيد
تقام هذه الأيام مهرجانات تدعي من ورائها التنشيط والتعريف بمناطقها ومن أجل الترفيه على المواطن، لكونه “قنطان ونازل عليه الضيم”.
لكن بداية أود أن أشير إلى ضرورة التحول إلى جيل جديد من المهرجانات والتي أتيحت لي الفرصة مرارا للوقوف على فقراتها، بأن هذه الملتقيات التنموية التي يسعى منظموها إلى تنويع الأنشطة بتنظيم محاضرات، ندوات، معارض، ومسابقات… في مهرجان يزعمون فيه بأنه لقاء المنتجين والمستهلكين، لقاء القراء والمبدعين …وبأنه يهدف الدفع بعجلة الإبداع والتنمية في مجالات شتى حسب خصوصية المدن أو المناطق، لكن للأسف ما يسجل على هذه المهرجانات هو أنه عوض ان يكون له الأثر في توفير الحياة الكريمة للمواطن فإن اغلب ما تستعد له الجماعات الترابية وما تخصصه من ميزانيات للشطيح والرديح والبضاضيات يزيغ عن الأهداف المتوخاة حيث تهيأ فضاءات لا يمكن الا وصفها بمرتع للسكارى والمشرملين والطايشين في عقولهم ونزواتهم الجنسية، وكل من يترقب الماء العكر للسباحة، ولهز وحط ياوز وسقوط سرواله من تحت حزامه بكل جرأة ونشوة… لتصبح المجالات العمرانية وفضاءاتها بعد هذا الحدث وكأن جيشا عرمرما مر من هنا، وخدوش واشمة على محيا المدن بعد تزاحم على التفاهة..
لذا حبذا لو صرفت الميزانيات الضخمة المخصصة للتفاهة في عرض تجارب فضلى، أو تخصيصها لمكاتب دراسات تبدع في إعداد مقاربات تنموية جادة…
لقد تغيرنا ياسادة لم نعد ممن بخذرون برفع البوط، وصوت الخلخال، وأنغام بضاض ودقات ورنين البندير..
نحن ذلك الشعب الذي احس بالتضخم بجد، وانعكاس الحرب الروسية الأوكرانية، ويستعد لانعكاس التطبيع، وينتظر نزول الفرشة المائية بالشكل الرهيب…
وأكيد لن ترقص العقول المهمومة والبطون الجائعة إلا إذا انطبق عليها قول المتنبي:
“ولاتحسبوا رقصي بينكم طربا ✓ فالطير يرقص مذبوحا من الألم”.
لسنت بهذا الكلام داع يأس أو أداة تيئيس… إنني لست ضد اي مهرجان، ولا أنا من دعاة مقاطعته أو منعه، فما بالك رجم الثاوين خلفه، أو الادعاء بأن لديهم أجندة وأهداف أيديولوجية محددة ومرسومة.
الأمر غير ذلك، إن الذي لا أستسيغه بالجملة والتفصيل، وأناهضه بقوة، إنما المصاريف الضخمة التي ترتبت عن تنظيم أي المهرجان.
فهل كان يا ترى لمهرجان من اي حجم، أن “ينجح” وينتشر صيته، لولا رعاية الدولة له، وإدارتها سواء المركزية أو الترابية.. ثم من ذا الذي بالقطاع الخاص، أو من المقاولات شبه العمومية، بمقدوره رفض الإسهام في تمويل مهرجان أو احتضان بعض أنشطته، اللهم إلا إذا اختار المجازفة بمستقبل مقاولته أو وضع منصبه مهما كانت درجته في الميزان؟
لأقُل مرة أخرى وبالواضح الصريح: إني لسنا من المغالين في مناهضة “مهرجان”، ولست بالآن ذاته، ممن يستلطف ذات مهرجان كثيرا، أو من الذين يحضرون سهراته، وعلى امتداد أسبوع أو 3أيام على الأقل من الزمن.
فبين قوسين، يذكر – وبحسب الرواية التاريخية، أنه كان مجلس الشيوخ الروماني كلما أحس بضيق عيش الشعب الروماني أو باقتراب ثورته على تسلطه إلا وبادر إلى محاصرة هذا الاحتقان وتفريغه بطرق يتجاوز بها مرحلة الانفجار… ولعل اختيار يوليوز قيصر لبناء الكولسيوم أو ما يعرف بحلبة المصارعة الرومانية ذلك عندما يكتظ أكثر من45 ألفا رومانيا كانت بمثابة الحل الأنسب حيث الرقص والغناء والخبز المجاني ومباريات المصارعة كفيلة بأن تجعل الشعب يولي اهتماماته عن وضعيته المزرية إلى الاهتمام بالمتبارزين والرقص والغناء وأشياء أخرى……
ومن هنا كان لابد من ان نضع سياق كلمة المهرجان في فهمها الصحيح والحقيقي وتأطيرها التاريخي قبل أي خوض في النقاش.
فكلمة مهرجان لم تكن تعني “النمية” التي جورا جرى تأويل مفهوم كلمتها ل”التنمية” نظير دمجها بمظاهر البهرجة أو التهريج أو الغناء أو الرقص يوما… بل تعني تنظيم نشاط اجتماعي ذي خلفيات اقتصادية لتبادل التجارب والمصالح والصفقات وكذا اعتباره واجهة تنموية من خلال تسويقه لمادة أو مواد محلية أو جلبه للمستثمرين أو غير ذلك من الأنشطة الإقتصادية التي يمكن أن تنظم داخله… ولقد تم استقدام فكرة المهرجانات من فرنسا ومن مناطق اللورين وغيرها من المناطق ذات الكثافة السكانية القليلة أو الأنشطة الاقتصادية الضعيفة… فكانت المجالس المنتخبة تنظم مهرجانات محلية بأسماء المنتجات أو الأنشطة المحلية كصناعة الأجبان والأثواب وأنواع الفواكه، فكانت هاته المهرجانات فرصة لعرض المنتجات من جهة وتبادل الخبرات مع مهتمين من مناطق أخرى، وكانت ايضا فرصة لجلب مستثمرين والبحث عن أسواق أخرى وعقد شراكات وعلاقات اقتصادية مع تعاونيات بمناطق أخرى….
هذا هو الفهم الفرنسي للمهرجان..
أما في مدننا وقرانا خاصة بالمغرب العميق أساسا، فباستثناء بعض المنتوجات المعدودة على رؤوس الأصابع فكل الإهتمام ينصب في توفير سبل الفرح بجلب العديد من فرق الغناء والرقص لحث الفقراء من أجل الرقص على إيقاع همومهم المتراكمة.
نتساءل دائما عن مصدر الأموال ومصاريف المهرجان لكن أصحابنا يتنصلون كونها بعيدة عن جيوب المواطنين وأنها تبرعات من شركات ومقاولات اخرى ولو أن عددا من المهرجانات الان تمول من ميزانيات المال العام للجماعات المحلية مفروض عليها المصادقة لتوفيرها لعدد من عمال أقاليم يتصرفون فيها في مهرجانات تعتبر من تنظيم واشراف وزارة الداخلية؟!!… إنما أليس من الأجدى صرف هاته الأموال المستخرجة من ميزانيات الجماعات اوالمتحصل عليها من تبرعات ومساهمات الشركات والمقاولات على تدعيم مجال التنمية المحلية اجتماعيا واقتصاديا، لكن هل من الممكن ان تساهم الشركات والمقاولات بالملايين لتمويل المهرجان دون ان تستفيد أي شيئ في المقابل؟! …
نعرف أن الأمور تسير عكس هذا، وأن ما يجري في الكواليس من اتفاقيات وتمرير للصفقات حيث الربح الحقيقي أكبر من الصفقة المعلنة أو اتفاقية الشراكة الموقعة لتمويل مهرجان بسيط.
كما يبدو، فهاته هي الأطراف المشاركة في تنظيم وتمويل اي مهرجان موضوع النقاش، لكن وعكس ما يشاع فأغلبية هاته المصالح والوزارات والجماعات يتم تمويلها من جيوب المواطنين عبر الضرائب.. وبالتالي فالأولى هو صرف هاته الأموال في مشاريع ذات منفعة عامة عوض صرفها في البهرجة والميوعة الفنية، في غياب تبرير موضوعي لصرف أموال لصنع الطنين.
أية قيمة مضافة سيقدمها أي “مهرج…ان” إذ يبقى اهم ما يستهدفه المنظمون هو تلميع صورهم وحضورهم وأمام الحالة التي عليها بيئة مجالاتهم الترابية من عدة نواحي بنيوية واجتماعية واقتصادية والتي تدعو إلى الشفقة.. لا يمكن إلا وصفه بمهرجان تمييع سياسة “النَّمِّية” خصوصا إذا علمنا كيفية الإعداد التي تسودها أجواء الارتباك والخوف من عدم تنفيذ تعليمات فوقية بقدرة قدير عندما تتحكم حرباء إدارة او مجلس جماعي في عدد من الأمور المرتبطة بتسيير وتدبير المهرجان أبرزها التموين الذي يتحكم فيه فرض الأمر الواقع بعد ان سبق الإعلان الرسمي عن المهرجان بالتوقيع والمصادقة على اتفاقية شراكة بين الجماعة المحلية أو السلطات الترابية مع جمعية غالبا ماتكون مفبركة أو من صنع أصحاب القرار في اخر مرحلة اعدادية للمهرجان وعلى مقاساتهم في غياب تكافؤ الفرص من خلال إعلان قانوني..
وأضحت المهرجانات عندنا مجرد مهرجانات الميوعة والمائعة والتي لا يمكن أن تقدم أي إضافة غير ثقافة العهر والتفاهة والأخلاق الساقطة والمتفسخة البعيدة كل البعد عن أخلاق أبناء مدننا سواء الداخلية أو الشاطئية أو الجبلية أو العتيقة والضاربة جذورها في التاريخ.
أرقام فلكية لتمويل برامج مهرجانات وأنشطة ثقافية وفنية تمتد لايام معدودات وتقام في جل المدن والقرى على نحو ينطبق عليه ربما المثل المغربي العميق “فلوس اللبان دَّاهم زعطوط”، نظير معاناة المواطنات والمواطنين من جراء التهميش والفقر وضعف وهشاشة المشاريع التي يتم الإعلان عنها وتفرز عند الإنجاز /إن حصل فعلا الإنجاز/ عن شرخ فاضح بين المعلن في المجسمات (الماكيط) والمنجز على أرض الواقع… إضافة إلى تكريس تعاطي اللامبالاة من طرف المسؤولين مع المشاكل، فقد كان الأولى بهم أن يسخروا تلك الأموال المفروضة على جماعات محلية تحت غطاء الشراكة لتقزيب ميزانياتها، وذلك بدفع الشركاء المنظمين والممولين للمهرجان إلى جمع الأموال لاستكمال وإنجاز المشاريع المتوقفة والمؤجلة والأوراش المهجورة عوض صرف كل هاته الاموال على أنشطة لا علاقة لها بما يجري على الأرض الواقع.
فالكوارث أكبر من أن نستطيع الوقوف عليها بمجرد مقال والواقع كفيل بالإجابة عن كل الترهات التي تحاول رسم واقع وردي عن قطاعات خدماتية كالصحة، انطلاقا من الهوة الشاسعة والكبيرة بين التوزيع الديموغرافي في حواضر وقرى عدد من الأقاليم والعمالات كمنطقة الأطلس المتوسط وجهة فاس مكناس على سبيل المثال، كمّْا ونوعا وعدد السكان.. وحاجة العديد من الجماعات إلى الطرق والمواصلات وباقي مكونات البنية التحتية التي تعاني الغياب التام في مناطق عدة والهشاشة والضعف والإهمال في باقي المناطق والذي هو عنوان المرحلة ..حيث الآلام والأحزان والفقر والمعاناة والبطالة والأمية وكل الآفات والظواهر الاجتماعية المدمرة.. فعوض أن تمتلك المجالس المنتخبة الشجاعة الكافية لتطرح حلولا ناجعة وجذرية لإعطاء إجابات شافية عن واقع التفسخ والترضي والبلوكاج الاقتصادي والخدماتي، فإنها اكتفت بالالتجاء إلى الحلول الترقيعية السهلة التي لا تزيد الاوضاع سواء الاجتماعية أو التنموية إلا تأزما من خلال اختيارها تنظيم مهرجان الرقص والغناء واحيدوس والتبوريدة و الذي لا يمكن ان تستفيد منه الساكنة أي شيء.
فما يعاب على صرف أموال في الطنين وترك الحبل على الحابل بوضعيات مؤزومة كالفقر والأمية والجهل والبطالة وغياب التطبيب…كلها مشاكل وآفات تنضاف إلى ما سبق ذكره، وهي كوارث أصبحت شبه طبيعية عند المواطن المغلوب على أمره ليس بحكم الإيمان بالقضاء والقدر ولكن على اعتبار استمرار سيطرة وتربع زمرة من رموز الفساد العقاري والسياسي والاقتصادي ورعاة الريع الاقتصادي على كل مناحي وتجليات العيش من عقار ورمال ومشاريع صغرى ومتوسطة وصفقات، وأصبحوا يمتلكون ويحتكرون كل شيء عبر تحالفات لوبي الفساد السياسي والاقتصادي، بل ويتمادون في الدفاع عن ذلك أمام الجميع وفي واضحة النهار حيث لم يُترك للكادحين وأبناء الفقراء وصغار الفلاحين وأبناء الدواوير والمعطلين وحاملي الشواهد العليا من أطر ومجازين إلا الاشتغال ك(خماسة ورباعة) والتسابق نحو “الموقف” أو اختيار الهجرة لمغادرة مناطقهم المنكوبة والموبوءة باتجاه مناطق او نحو مدن أخرى حيث فرص الشغل بمناطق تتمركز فيها المشاريع الاقتصادية.
مدننا وقرانا بحاجة إلى مشاريع حقيقية لدعم البنية التحتية ومبادرات فعالة وحقيقية لخلق مشاريع كبيرة لخلق مناصب شغل قارة ومتنوعة لإيقاف هجرة الشباب والتأسيس لتجليات ودوافع الاستقرار وكذا على اعتبار أن أي نهضة وتطور بعيدا عن الاهتمام بشباب المدينة ليس إلا كذبا ونفاقا وقفزا عن الواقع ومتطلباته.
لقد حاولت أن أتناول المهرجانات من جانب نقدي تماشيا وسيرورة الصراع الطبقي على مستواه الإديولوجي وتأتيره على البنية..
أتمنى أن يجد مقالي هذا الاهتمام المطلوب والتأثير المنتظر على الأقل من أجل أن يعي الجميع بحقيقة الواقع المعاش بعيدا عن تأثير الأقلام “العميلة” على الرغم من يقيننا بالعجز عن تحقيق إقناع العديد من الأزلام ولفت انتباههم لعدم الانزلاق وراء التهافت على الأظرفة، وهذا معلوم جدا، ولكوننا ضد أن يستعمل مهرجان للضحك على أبناء مناطقنا المنسية أساسا من تنمية مستدامة واضحة تضمن العيش الكريم للسكان، فيما يجتهد العديد من المنظمين إلى تمرير ما تبقى من الصفقات في صمت مطبق.
“إن ثقافة الكرنفالات والاحتفالات عديمة الجدوى لا تصنع وعيا ولا توجه ضميرا ولا تعلي قيمة الإنسانية”.
براءة مفهوم “المهرجان” من تهمة التنمية وتكريس بهرجة النمية..
اترك تعليقا