الألباب المغربية/ ميمونة الحاج داهي
لا يُفهم التصعيد الإعلامي والسياسي المتكرر ضد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، إلا في إطار استراتيجية أعمق تتجاوز الحسابات الشخصية أو التقييم الموضوعي لتجربته. فالحملات المتكررة التي تستهدفه لا تتزامن مع أحداث من ماضيه السياسي، بل تنفجر كلما تراجعت شعبية الحكومة الحالية أو احتدم النقاش حول إخفاقاتها. هذا التزامن ليس عرضيا؛ إنه تعبير عن تقنية مألوفة في أنظمة الحكم: نقل مركز الأزمة من الحاضر إلى الماضي لتجنب المساءلة الفعلية.
إن محاولة التحكم الرمزي في الوعي العمومي هو آلية تشتغل من خلال إعادة توجيه الانتباه الجماهيري من أسئلة الواقع (من يحكم؟ ماذا تحقق؟ كيف نعيش؟) إلى قضايا منتهية الصلاحية سياسيا، لكنها تُستعاد بخلفية وظيفية: إرباك الإدراك العام، وتمييع النقاش، وإبقاء الغضب مشغولا بخصم سابق بدلا من محاسبة الفاعل الحقيقي.
إن بنكيران لم يعد في موقع القرار، وهذه حقيقة لا يجهلها المواطن. لكن استدعاءه كمادة يومية للهجوم يعكس محاولة لإعادة هندسة الذاكرة السياسية بحيث يبدو وكأن المرحلة السابقة هي أصل كل المعضلات، في حين تترك الحكومة الحالية بلا محاسبة تقريبا. وهذا في جوهره ليس سلوكا ديمقراطيا، بل تكتيك دفاعي لسلطة تدرك أنها فشلت في بناء خطاب منجز، فتشيد خطابا بديلا قائما على جلد الخصم الغائب.
والأخطر أن هذا التمويه لا يتم فقط عبر السلطة التنفيذية، بل يجد صداه في منابر إعلامية تعيد إنتاج الصراع نفسه، وفي نخب سياسية وفكرية اختارت أن تهادن، بدلا من أن تؤدي دورها في التأطير والمساءلة. في هذه الحالة، لا يمكن الحديث عن مجرد انحياز إعلامي، بل عن شبكة متكاملة من التواطؤ الرمزي، تسهم في تسطيح النقاش العام وتفريغه من محتواه السياسي الحقيقي.
لماذا يستعاد بنكيران اليوم؟ لأن السلطة لا تريد الاعتراف بأن المشاريع الكبرى التي وعدت بها لم تنجز، وأن الدولة الاجتماعية التي رفعت شعارا، تحولت إلى ملف بلا مضمون فعلي. استدعاؤه هو نوع من تدوير العجز السياسي، عبر البحث عن خصم جاهز، يمكن مهاجمته دون كلفة، بدل مساءلة الفاعل المباشر.
إن هذه الاستراتيجية، وإن بدت ناجعة على المدى القصير، فإنها تفقد فعاليتها حين يصر المواطن على طرح السؤال الجوهري: من الذي يحكم اليوم؟ ومن الذي يجب أن يساءل؟
والجواب على هذا السؤال لا يوجد في الأرشيف، بل في الواقع اليومي الذي يعيشه المواطن في الأسواق، في المدارس، في المستشفيات، على قارعة الطريق وفي تآكل الثقة في المؤسسات.