الألباب المغربية/ د. حسن شتاتو
يُخطئ من يظن أن المغرب دولة من دول ما بعد الاستعمار، أو أن حدوده رُسمت بقلم جنرال فرنسي على طاولة المفاوضات.
المغرب ليس دولة وُلدت سنة 1962 ولا 1830، بل كيانٌ تاريخي حيٌّ امتدّ من جبال الأطلس إلى تلمسان، ومن فاس إلى الصحراء الشرقية، قبل أن تأتي فرنسا لتقتطع من جسده الشريف أجزاءً وتُلحقها بإقليمٍ إفريقي أرادت له أن يكون حائط صدٍّ لمشروعها القديم في شمال إفريقيا.
حين نعود إلى التاريخ، لا نحتاج إلى المذكرات الدبلوماسية ولا إلى خرائط الأرشيف الفرنسي لنعرف أن تلمسان كانت قلبًا مغربيًا نابضًا في ظل السعديين والمرينيين، وأن الصحراء الشرقية كانت معبر القوافل المغربية نحو إفريقيا.
كلّ ذلك موثّق في مراسلات الملوك، وسجلات الزوايا، وشهادات الرحالة الأوروبيين قبل أن يولد ما يُسمّى اليوم بـ”الجزائر الحديثة”.
أما الجزائر ذاتها، فليست سوى اختراعٍ فرنسيٍ بامتياز، جمعت فيه باريس أراضي من الصحراء الكبرى إلى حدود تونس ومالي، ونفخت فيه من رياح العسكر روحًا مصطنعة سمتها “الجمهورية الجزائرية”. إنها دولة وُلدت من رحم الخريطة، لا من عمق التاريخ.
وليس غريبًا أن ترى هذه الدولة، التي لم تكتمل ملامحها الوطنية بعد، تُحاول أن تصنع لنفسها مجدًا زائفًا على حساب جيرانها. فكلُّ من لا تاريخ له يبحث عن معركةٍ رمزيةٍ ليُثبت وجوده، حتى لو كانت تلك المعركة ضد الحقيقة.
لقد عاش المغرب حرًّا في وجه العثمانيين، في وقتٍ كان فيه الشرق المغاربي يرزح تحت وصاية الإنكشاريين وولاة الباب العالي، المغاربة لم يُساقوا تحت راية الغير، ولم يُؤدّوا الجزية لغير الله. كانوا ملوكًا لا ولاة، أحرارًا لا عبيدًا، وهنا يكمن الفارق الجوهري بين دولة السيادة ودولة التبعية.
أما فرنسا التي ترفع بعض الأبواق رايتها في الخفاء، فهي التي خطّت حدود الجزائر الكبرى بمسطرة استعمارية، لتجعل منها دولة وظيفية تحمي مصالحها في المنطقة وتُربك التوازن المغاربي كلّما لاحت في الأفق مبادرة وحدة أو تنمية مشتركة.
وهذا ما نراه اليوم في حملات التشويه المتكررة ضد المغرب وسياساته. إن ما يسميه البعض “الذكاء الدبلوماسي المغربي” ليس إلا امتدادًا لتقليد عريق في القيادة والتبصّر. فالمغرب لا يرفع صوته في المحافل الدولية لأنه يعرف أن قوته في تاريخه، وأن حجّته في شرعيته.
من وادي المخازن إلى أنوال، ومن المسيرة الخضراء إلى مشاريع التنمية في الأقاليم الجنوبية، يكتب المغرب تاريخه بالفعل لا بالكلام.
واليوم، ومع استمرار معركة التحرير المغربية، يحاول بعض من لا تاريخ لهم الطعن في رموز السيادة المغربية بالحديث عن سبتة ومليلية والجزر المغربية.
لكن الحقيقة أن ما يجهله هؤلاء أن تاريخ المقاومة المغربية ضد إسبانيا أقدم من تاريخ دولهم نفسها.
فبينما كان الآخرون يعيشون في العبودية تحت وطأة العثمانيين والإنكشاريين، كان المغرب يواجه بمفرده الحملات الصليبية وحروب الاسترداد، ويصدّ الغزوات الإسبانية والبرتغالية في معارك خالدة.
وحين سقطت سبتة ومليلية في القرن الخامس عشر، لم يكن في المنطقة آنذاك كيانٌ اسمه “الجزائر”، ولا دولة ترفع رأسها لتقول كلمة حق.
واليوم، يخرج بعض الحاقدين ليختزلوا التاريخ في أكذوبةٍ ساذجةٍ مفادها أن السلطان العلوي “باع المدينتين مقابل دراجة هوائية” — وهنا تكتشف فعلاً أن الحقد يولّد الغباء، وأن من لا يعرف تاريخه يُخترع له تاريخٌ على المقاس.
فالمغاربة لا يبيعون أرضهم، بل يسترجعونها جيلاً بعد جيل، وها هي المسيرة متواصلة حتى يُعاد الحق إلى نصابه الكامل.
إن معركة المغرب ليست حدودًا على الورق، بل معركة وجودٍ وكرامةٍ ضد التزييف التاريخي والوصاية الفكرية.
فمن تلمسان إلى الصحراء الشرقية، ستبقى الروح المغربية حيّة في التاريخ والجغرافيا والوجدان، مهما حاولت الأقلام المأجورة أن تزرع الشكوك.
والمغاربة اليوم، من طنجة إلى الكويرة، يعرفون تمامًا أن الحق لا يضيع ما دام وراءه شعبٌ يؤمن بعدالة قضيته، وأن حدود الوطن ليست خطوطًا تُرسم بالحبر، بل جذورًا تضرب في الأرض منذ قرون.