الألباب المغربية/ حسام بوزكارن
كيف يمكن لحضارة ماتت منذ أكثر من ألفي عام أن تبعث من جديد، لكن في أسوأ صورها، متجردة من أي بطولة حقيقية، محتفظة فقط بالوجه القبيح للعسكرة والعنصرية والخوف المزمن من الاخر. والحديث هنا عن اسبرطة القديمة، المدينة التي تحولت إلى أسطورة عسكرية، لم تكن مجرد قوة حربية، كانت تجربة اجتماعية متطرفة بنيت على فكرة البقاء من خلال القوة المطلقة. كان الأسبرطيون أقلية محاطة بعبيد الهيلوت الذين فاقوهم عددا بعشرة أضعاف، وعاشوا في نظام منغلق يخضع الحياة المدنية لمنطق الجندية، حيث كانت الدولة تدار بعقل عسكري يجعل من الانضباط والطاعة قيمتين أعلى من الفكر والإبداع، لم يبنوا حضارة فنية أو فكرية، كانوا فقط الة حرب تدور في حلقة مفرغة من العنف والخوف.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا انهارت اسبرطة؟ الإجابة بسيطة لأن مجتمعا مبنيا كليا على العسكرة والعنصرية لا يمكن أن يستمر، حيث استنزفت حروبها المتواصلة عدد مواطنيها النخبة، وتحول خوفها من الداخل إلى جمود فكري وعجز عن التكيف. عندما هزمت أسبرطة في معركة ليوكترا عام 371 قبل الميلاد، لم تكن تلك مجرد هزيمة عسكرية بل كانت انهيارا لنموذج كامل أثبت فشله التاريخي.
عندما يعاد إنتاج الكابوس، اليوم في القرن الواحد والعشرين نشهد إعادة إنتاج مذهلة لهذا النموذج الفاشل في قلب الشرق الأوسط. الكيان الصهيوني ليس مجرد دولة استعمارية عادية، هو تجربة اسبرطية جديدة بامتياز مع فارق جوهري اناسبرطة الأصلية على الأقل كانت صادقة في وحشيتها، أما النسخة الحديثة فتغلف عنفها بخطاب ديمقراطي أجوف وادعاءات أخلاقية مضحكة.
تشابهات مرعبة بين النموذجين، مجتمع مبني كليا على العسكرة، حيث الخدمة العسكرية ليست واجبا بل هوية وجودية، والأطفال يتدربون على السلاح قبل أن يتعلموا التفكير النقدي واقتصاد مدعوم بمليارات الدولارات من الخارج لأنه عاجز عن الاستقلال الحقيقي وفوق هذا كله، نخبة عنصرية ترى نفسها متفوقة على البرابرة المحيطين بها، تماما كما كان الأسبرطيون ينظرون إلى الهيلوت.
لكن الفارق الأكثر سخرية هو أنالاسبرطيون على الأقل لم يدعوا أنهم ضحايا، لم يبنوا متاحف للمعاناة بينما يمارسون الإبادة ولم يطلبوا تعاطف العالم وهم يسحقون من حولهم. كانوا محاربين قساة، لكنهم لم يكونوا منافقين بهذا القدر الفاضح، والأهم من ذلك، اسبرطة القديمة لم تكن تملك أسلحة نووية ولا دعما لا محدودا من إمبراطورية عظمى، كانت تعتمد على قوتها الذاتية وعندما نضبت تلك القوة، انتهت. أما النسخة الحديثة فهي مثل مريض على جهاز تنفس صناعي يبدو قويا من الخارج لكنه يعلم في قرارة نفسه أن انقطاع الأوكسجين الخارجي يعني نهايته الحتمية.
دائما التاريخ يعلمنا دروسا أن المجتمعات المبنية على العنف المطلق والعنصرية البنيوية تحمل بذور فنائها في داخلها. اسبرطة انهارت لأنها لم تستطع الحفاظ على عدد كاف من المواطنين الأنقياء، لأن حروبها المتواصلة استنزفتهم، ولأن خوفها من الداخل جعلها عاجزة عن التطور. والكيان الصهيوني اليوم يواجه أزمة ديموغرافية مماثلة، وانقسامات داخلية متصاعدة بين علمانيين ومتدينين وهجرة عكسية متزايدة وحاجة متنامية لجدران أعلى وقبة حديدية أقوى. الفرق الوحيد أن اسبرطة الأصلية لم تكن تملك كاميرات ترصد كل جريمة، ولا شبكات تواصل تفضح كل ادعاء. كانت تستطيع أن تكتب تاريخها كما تشاء. أما اليوم فالعالم يشهد، والتاريخ يسجل والأسطورة تتهاوى في الوقت الفعلي.
التاريخ يعيد نفسه، لكن في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، والمهزلة هنا ليست فقط في تكرار نموذج فاشل، بل في الاعتقاد الساذج بأن نفس الوصفة ستؤدي إلى نتيجة مختلفة. اسبرطة سقطت وكل نسخة جديدة منها محكوم عليها بنفس المصير، مهما طال.